كتب الدكتور فتحي ليسير أستاذ التاريخ المعاصر و عميد سابق لكلية الأداب و العلوم الأنسانية بصفاقس تدوينة عن لطفي العبدلي و ما قاله من أبتذال عن عبير موسي و أعتبره عنواتا للسقوط الفني وهذا نص تدوينته كون لطفي العبدلي سمج ، متواضع الموهبة ، متطفّل على “الوان مان شُو” ، مسألة لا نقض فيها و لا إبرام .
أما أن يتجاوز حدوده ببذاءاته و قلّة حيائه ، و يتخطّى كل الخطوط فتلك مسألة أخرى كما يقال.. و العبدلي المجبول على الرقاعة ، و الذي يطوي جُنُوبه على شهيّة محتدمة لدغدغة الغرائز السفليّة ، يُشهر بذاءته على الملأ Il revendique ses cochonneries بله و يباهي بذلك و يعدُّه مفخرة له يستمد منها جانبا من “وجاهته” الاجتماعية و “الفنية” .
و يستعمل صاحبنا في بذاءته ( من مرادفات كلمة البذيء في العربية : الداعر و السافل و الشائن و الصفيق و قليل الحياء و القبيح و المتهتك و المنحل و الهابط و الوقح و السفيه…الخ. ) المقرفة و سخافاته المقززة ، بكل تعبيراتها و عباراتها المكشوفة الجارحة الخادشة للحياء و الذوق ، كل أنواع البلاغة من حقيقة و مجاز و تشبيه واستعارة و كناية . و الظاهر أنه يجد راحة بله متعة و هو يقذف بشتائمه و ايحاءاته الهابطة خصومه و منافسيه الشخصيين قبل أن يزاول المناولة في هذا المجال حديثا جدّا.
و مصداق هذا أنه يصبح طلق العبارة متدفق الكلام في “تخميراته” بشهوانية إفتراسية . و بالتدريج اجترح أو صكّ لنفسه ، بعد طول مراس في هذا المضمار ، أسلوبا ، و “شخصية” و طابعا بلقلقته و فيهقته .هكذا أصبح “سي لطفي” ، الذي قذفته سخرية القدر إلى تصدّر المشهد المسرحي اليوم بلا منازع تقريبا ، يجسّد أسوأ مثال “للفنان” الذي يستدرّ هأهأة الجمهور (ها..ها..ها..) بسرد التفاهات و غثيث القول بإسلوب لا يدانيه فيه أحد . و على هذا الحد أصبح “فناننا ” مضرب المثل قي قلة الحياء و الصفاقة ، مكرسا بذلك أكبر وصمة بالتدهور و الانحدار للمشتغلين في مجال الفن الرابع النبيل جدّا.
و الحق أن الطفيليات ، من طراز العبدلي ، و التي بدأت بالتكاثر و التناسل ، قد ازدهرت بضاعتها منذ سنوات ليست بالقليلة في بيئة ملائمة ، من سماتها تفشي الغثاثة و السطحية في المجال الثقافي (كما في بقية المجالات كما هو معلوم ) و بتصحّر فكري و بتجريف شبه منهجي لكل ما هو جميل و جليل بحيث أصبح “كل شيء ” من حولنا ، بعد تهميش الثقافة و المثقفين و الفن و الفكر الرفيعين ..، “كل شيء قلنا ، يميت الذوق و يبلّد الحسّ و يقضي على الشعور بالجمال .
و قد حرّض هذا الفراغ الرهيب أرباع الموهوبين ، و أنصاف المتعلمين و المهرّجين الفارغين ، لا سيما العناصر الفهلوية و الانتهازية و الوصولية من المتسلّقات على إهتبال الفرصة لملء الساحة و تأثيث المشهد إعتبارا الى أن الطبيعة تمقت الفراغ ، كما يقال .
و بما أننا مجتمع أصبح فيه الفاشلون أخلاقيا هم الناجحون إجتماعيا خلا الجو للعناصر المارّ ذكرها و منها صاحبنا ليتصدّر المشهد و يحتلّ الصفوف الأمامية – كما ذكرنا – و يتحوّل إلى “سلطة ترفع و تضع ” . مثل هذه البيئة الموبوءة التي وصفنا هي التي جعلت العبدلي أحرى من الفنانين الحقيقيين (و الحقيقين بالتبجيل ) بالحظوة و الاهتمام . هكذا طفق إعلامنا البائس يخلع على العبدلي لقب “ملك الوان مان شٌو” . و غالبا ما يأتي إسمه مقرونا بلفظ “فنان” .
كان أجدر بالعبدلي – الذي آثر ركوب السهولة – التأسّي بالمعلّمين الكبار في مضمار “الضمار”. أولئك الذين يجترحون – بعد معاناة و مكابدة شاقة – النكت اللطيفة و النوادر المُستملحة ، مع خفّة للروح نادرة ، فضلا عن اللياقة و اللباقة .
أولئك الذين علّمونا أن الفكاهة و الضحك فن بل فنون و ألوان . الفنان القدير توفيق الجبالي واحد من هؤلاء . رجل صاحب طبع مرح طروب و إحساس فني مرهف ، جرى في إبداعه الهزلي ، في كلّ لون ، و لكنه لم يكن يوما مهزارا أوعابثا يتلقف نوادره من الجمل الجاهزة .
لقد كانت فكاهة الأمين النهدي و خاصة توفيق الجبالي طرازا من العبقرية الخلاقة المبدعة ، و كان الجبالي أقدر ما يكون على التلاعب باللفظ في ابراز النكتة أو الطرفة أو الملحة و إيراد المفارقة المضحكة .
و هذا هو السرّ في بقاء نوادر “كلام الليل” جديدة رائعة بعد أن زالت ظروف نشأتها و مناسباتها. تراث جميل نفتخر به و نباهي .
نرجع الى مرجوعنا لنقول : هذه السطور هي كناية عن دعوة جهيرة لعزل الطفيليات (من أمثال العبدلي) فنيّا ، طفيلياتٌ ضارّةٌ تختزل أبشع ما في الرداءة و الضحالة من تدهور و انحطاط . و ما سقطة صاحبنا الأخيرة – و التي انتهت به إلى ما دون الحضيض – إلاّ مثال صادق على ذلك .