د. شوقي العلوي (إعلامي و باحث في الاتّصال السياسي)
على العكس تماما من الانتخابات الرّئاسية لعام 2014 لا يبدو التنبّؤ بنتائج انتخابات 2019 التي تجرى منتصف الشهر القادم أو حتّى بمن قد يدرك الدّور الثّاني الممكن منها، أمرا يسيرا.
فقد كان جليّا عام 2014 و قبل أشهر من الاقتراع أنّ المنافسة تدور بين مشروعين الأوّل “هوويّ-إسلاميّ” قاعدته حركة “النّهضة” الإسلامية و رمزه المنصف المرزوقي المتحالف معها آنذاك و صاحب التوجّهات العروبيّة ، و الثّاني مشروع “حداثي-وطني” يسنده تحالف عريض يضمّ دستوريّين و نقابيين و يساريين معتدلين يشكّلون أبرز روافد حزب “نداء تونس” الذي أنشئ لإحداث التّوازن مع الإسلاميين الزّاحفين على مشهد ما بعد 14 جانفي 2011 في تونس و زعيمه الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السّبسي.
أمّا اليوم و قبل أسابيع قليلة من موعد الدّور الأوّل للانتخابات الرّئاسية، فإنّ المشهد الإنتخابي يتّسم بالضّبابية و ازدحام المترشّحين حتّى عن العائلات السّياسية الواحدة و حيرة النّاخبين أمام “عرض سياسيّ” ملتبس و متشظّ.
فما هي أبرز عوامل هذا التشظّي و تمظهراته ؟
جرت في نهر المشهد السّياسي التّونسي منذ انتخابات 2014 مياه كثيرة…
يمكن القول دون كبير مخاطرة أنّ بدايات تشظّي الخارطة السّياسيّة تعود إلى انفجار حزب “نداء تونس” نتيجة تمسّك مؤسّسه الرّاحل الباجي قائد السّبسي بخيارين أساسيين لم يكونا محلّ توافق داخل الحزب و خارجه. و هما التّحالف مع حركة “النّهضة” و تقاسم السّلطة معها اعتبارا لوزنها البرلماني في إطار ما عُرف بسياسة “التّوافق”. أمّا المسألة الخلافية الثّانية فهي الاستماتة في فرض ابنه، حافظ قائد السّبسي، مديرا للحزب رغم عدم أهليّته لذلك.
و نتيجة لهذين الخيارين انفجر “نداء تونس” و تشظّى إلى أربعة أو خمسة أحزاب ضعيفة. و ذلك ليس لبّ المسألة .
فقد كان “النّداء” ركنا من ركنيْ المنظومة السّياسية النّاشئة عن انتخابات 2014 إلى جانب حركة “النّهضة” في إطار ما يمكن تسميته ب “تفاهمات الشّيخين” في لقاء باريس الشهير صيف 2013 و الذي وضع أسس “التّوافق” بينهما و من ضمنه دعم قائد السّبسي في الوصول إلى الرّئاسة مقابل تقاسم مواقع أخرى في السّلطة بينهما.
و بتشظّي النّداء، انخرمت المعادلة التي يقوم عليها الحكم فسارعت “النّهضة” إلى البحث عن شريك جديد لأنّ تجربة الحكم “المتغوّل” من 2011 إلى 2014 علّمتها أن تحتمي بحليف قويّ نسبيّا …
و وجدت “النّهضة” في رئيس الحكومة يوسف الشّاهد ضالّتها . فقد كان في خلاف معلن مع نجل الرّئيس ثمّ مع الرّئيس نفسه فيما بعد. و كانت السّلطة التّنفيذية الحقيقية بين يديه بحكم توزيع السّلطات في دستور 2014 .
و أنشأ رئيس الحكومة حزبا جديدا (تحيا تونس) على أنقاض حزب الرّئيس وابنه و بإطاراته و مرجعيته الفكرية و السياسية تقريبا…
فزاد ذلك من تشظي “النّداء” و من ورائه ما يعرف بعائلة الأحزاب “الحداثية” و” الوطنية”.
في الجهة المقابلة، شهد حزب “النّهضة” ذاته تصدّعات لم تمسّ تماسكه الهيكلي إلى حدّ السّاعة و لكنّها على قدر من الجديّة غير قليل بالنّظر إلى ما يعرف عن التّنظيمات الإسلامية من انضباط و ولاء للقيادة و اعتبارا لتداعياتها الانتخابية أيضا.
و لئن كان يمكن إعادة بدايات التباينات داخل الحركة إلى أسباب بعيدة نسبية و تختزل عادة فيما يسمّى بالاختلاف بين قيادات المهجر (قبل 2011) و قيادات الدّاخل التي عانت من السجون و الفقر، فإنّ الحركة نجحت دوما في احتوائها و تطويقها في نطاق أطرها الدّاخليّة . و قد عرفت الحركة في مؤتمرها العاشر (ماي 2016) تململا واضحا من قبل “الذّئاب الشّابة” من استئثار رئيسها راشد الغنوشي بسلطة القرار فضلا عن التّجاذب الذي حصل آنذاك حول ما سمّي بالفصل بين السّياسي و الدّعوي …
و لكنّ الأزمة التي اندلعت في الأسابيع الأخيرة بمناسبة إعداد قائمات الحركة للانتخابات التّشريعية في مختلف الدّوائر تشكّل، دون ريب، سابقة من حيث مداها و تأثيراتها الممكنة على تماسك الحركة. فقد أصبح الصّراع علنيّا في وسائل الإعلام و وقع تحدّي سلطة “الشيخ” و أسلوب حوكمته للحركة و تدخلّه المفرط في تحديد القائمات الانتخابية. بل إنّه وقع انتقاده من أقرب المقرّبين منه على غرار مستشاره السياسي لطفي زيتون الذي قدّم استقالته من الخطّة على خلفية تباينات سابقة و أخرى مستجدّة…
كما شهد مجلس شورى الحركة معارضة لتوجّه الشيخ بشأن تفضيل مرشح من خارجها للانتخابات الرّئاسية في حين تمسّك أغلب الأعضاء بترشيح نائبه عبد الفتّاح مورو.
و شهدت جبهة اليسار، “الجبهة الشّعبيّة”، التي تجمع أحزابا و تيّارات اشتراكيّة و قومية راديكاليّة تفكّكا مدهشا على خلفية الترشّح للانتخابات الرّئاسية و الذي يعود قبل ذلك إلى اعتراض القيادات الشّابّة كذلك على خطاب زعيم الجبهة العمّالي حمّة الهمامي و على أسلوبه “البالي” في إدارة الصّراع السّياسي و طريقة التّموقع من أجل الوصول إلى الحكم…
و بالإضافة إلى الصّراعات داخل الأحزاب الكبرى “التّقليديّة”، ازدادت السّاحة السياسيّة تشظّيا نتيجة “قرف” المواطنين من الأحزاب و صراعاتها و انشغالها عن مشاكلهم اليومية و التّسابق المحموم لتحقيق المآرب الذّاتية من ذلك تفاقم ظاهرة ما يسمّى ب “السّياحة الحزبية” و ذلك بتنقّل البرلمانيين و القياديين الحزبيين من حزب إلى آخر لهثا وراء مواقع أفضل …
و نتج عن ذلك ظهور قوى سياسية جديدة توسم ب “الشّعبويّة” و ذلك تدغدغ مشاعر العامّة و توّظّف العمل “الخيري” أو تدّعي الطّهر السّياسي و مناهضة المنظومة السّياسية القائمة برمّتها …
تعدّد الترشّحات مظهر من مظاهر التشظّي داخل العائلات السياسية نفسها
أدّى التّشظّي و الخلافات داخل العائلات السّياسية الكبرى إلى تعدّد الترشّحات داخل كلّ عائلة من العائلات السّياسية الكبرى.
فعلى مستولى “الحداثيّين-الوطنيّين” نجد اليوم تنافسا شديدا بين رئيس الحكومة الحالي يوسف الشّاهد و عبد الكريم الزّبيدي وزير الدّفاع المستقيل. و لكن أيضا مع قيادات من حزب يوسف الشاهد القديم “نداء تونس” على غرار محسن مرزوق و سلمى اللّومي و سعيد العايدي و ناجي جلّول … الذين انسلخوا بدورهم عن ذلك الحزب و أسّس معظمهم أحزابا أخرى منافسة و إن كانت كلّها مبنية على التوّجّهات الفكرية و السّياسية ذاتها.
في المقابل، و لئن قدّمت “النّهضة” لأوّل مرّة مرشّحا عنها إلى الرّئاسيّات، فإنّ ذلك التّرشيح جاء على خلفيّة تكتيكيّة فرضها موت الرّئيس قائد السّبسي المفاجئ و الاضطرار دستورا إلى تقديم الانتخابات الرّئاسية على التّشريعيّة. فقد ارتأت الحركة ألّا تبقى في موقع المتفرّج في الحملة الرّئاسيّة بما قد يؤثّر على حظوظها في الانتخابات البرلمانية التي تجري بعد ثلاثة أسابيع فقط. و هي الانتخابات التي تعوّل عليها الحركة أيّما تعويل باعتبار أنّ رئيس الحكومة صاحب الجزء الأكبر من السّلطات التّنفيذية سوف يكون من الحزب الفائز اوّلا في الانتخابات التّشريعيّة و ذلك فضلا عن الصّلاحيات الواسعة التي منحها دستور 2014 إلى البرلمان.
و هو ما يفسّر تقدّم رئيس الحركة راشد الغنّوشي إلى الانتخابات التّشريعية و ليس إلى الرّئاسيّة سعيا للحصول في مرحلة ثانية على رئاسة البرلمان بما يضمن له موقعا اعتبارياّ في قلب السّلطة من ناحية أولى قد تكون بديلا مجزيا عن رئاسته للحركة باعتبار أنّه لا يحقّ له الترشح لها في المؤتمر القادم عام 2020 خصوصا في ضوء تحدّي سلطته داخل عدد كبير من قيادات الصفّ الأوّل فيها فضلا عن تمتّعه بالحصانة البرلمانية في صورة ما إذا اقتضت التّحوّلات الدّولية و الإقليمية ملاحقة الإسلاميّين في عدّة اتّهامات و شبهات منها تسفير الإرهابيّين إلى سوريا و الاغتيالات السّياسيّة لعام 2013 و الاحتفاظ بجهاز سرّي …
كما أنّ “الشيخ ” مورو و إن كان مرشّح مجلس الشّورى الرّسمي فهو لا يحظى بدعم كلّ القواعد التي يتوقّع أن تفضّل أقسام واسعة منها الأمين العام السّابق و رئيس الحكومة النّهضويّة الأولى حمّادي الجبالي المغصوب عنه من قبل القيادة أو مترشّحين آخرين من خارج الأطر الرّسمية للحركة على غرار الرّئيس السّابق للجمهوريّة المنصف المرزوقي أو الجامعيّ قيس سعيّد و غيرهما ممّن يغازلون النّاخب النّهضوي بخطاب أقرب إلى مهجته من خطاب ضرورات السّلطة الذي تتوخّاه الحركة مكرهة …
و على صعيد اليسار تحدّى القيادي الشابّ منجي الرّحوي الأحقية الحصرية لزعيم “الجبهة الشعبية” في الترشّح للرّئاسيات فقدّم ترشّحه و قبل مبدئيّا. و كذا الشّأن بالنسبة للنّقابي السّابق عبيد البريكي. ممّا سيجعل التّصويت اليساري متشظّيا بين هؤلاء و غيرهم…
و فيما يتعلّق بمن يوصفون بالشّعبويّين ، فإنّ صاحب قناة “نسمة” التّلفزيونية، الذي حوّل رأس المال الرّمزي لجمعية خيرية أنشأها إثر وفاة ابنه إلى حزب سياسي، لا يزال يعتبر من المنافسين الرّئيسيّين في السّباق الرّئاسي.
و كذا الشّأن بالنّسبة لوريثة حزب “التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي” الذي وقع حلّه في 2011 و التي تعتبر من أبرز المدافعين عن حكم الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي…
هكذا يبدو المشهد الانتخابي متشظّيا بين 26 مترشّحا من العائلات السّياسية المختلفة و لكن داخلها أيضا ممّا يخشى معه تشتّت التّصويت و زيادة عزوف النّاخبين عنه لضبابيّة المشهد وتعقّده …