بعد سقوط النظام، من المنظور الداخلي :سوريا نحو التفكك….
تونس -أونيفار نيوز-حول تطورات الوضع في سوريا اعتبر الدكتور واستاذ القانون الدستوري “عدنان الامام”ان
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 شكّل لحظة فارقة في التاريخ المعاصر لسوريا. لحظة انتظرها ملايين السوريين، الذين لم يتعضوا من غيرهم، باعتبارها بوابة الخلاص من الاستبداد، والتمهيد لبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة. غير أن ما تلا هذا الحدث التاريخي لم يكن انفتاحًا على عهد جديد من الوحدة الوطنية، بل انزلاقًا متسارعًا نحو التفكك، وسط صعود تنظيمات إرهابية إلى الحكم لا تمتلك أي مشروع وطني، وتشكّلت أصلاً في سياق عقائدي معادي للأوطان.
ما هو مؤكد ان انهيار النظام لم يتبعه صعود قوى مدنية جامعة، بل تَوسّع نفوذ جماعات ارهابية قائمة على أيديولوجيا سلفية جهادية تعتبر المختلف عنها “عدوًا” لا شريكًا. هذه الجماعات لم تتسلّم السلطة بوسائل سياسية أو شرعية، بل فرضت أمرًا واقعًا بالقوة المسلحة بفضل مساندة القوى المشغّلة لها، وأقامت سلطات موازية قائمة على الغلبة، وليس على التوافق.
وبدل أن تشكّل لحظة السقوط فرصة لبناء عقد اجتماعي جديد، تحوّلت إلى لحظة انكشاف كامل: انكشاف هشاشة النسيج الوطني، وانكشاف غياب البديل الحقيقي، وانكشاف التصدّع بين مكونات المجتمع السوري.
مما يجعل الوضع أكثر خطورة هو أن جزءًا هامّا من هذه الجماعات المسيطرة على الأرض ليس سوريًا أصلًا. فهي تتكوّن من مقاتلين وفصائل جاءت من خارج الحدود: من أفغانستان والشيشان واليمن و الصين و تركمانستان و تونس….، و تحمل فكرًا جهاديًا مغلوطا لا يعترف بسوريا كوطن، ولا بالشعب السوري كمصدر للشرعية.
تتعامل هذه الجماعات مع سوريا بوصفها “أرض جهاد” لا دولة ذات سيادة. ولا ترى في سكانها مواطنين متساوين في الحقوق، بل “رعايا” يجب إخضاعهم لشرائعها الخاصة، المستلهمة من ديانة إسلاموية محرفة هي نقيض الإسلام الأصيل، لا من التجربة التاريخية السورية.
هذه الجماعات لا تؤمن بفكرة الدولة الوطنية، بل تسعى لإقامة “إمارات” عقائدية . وهي تنظر بعين العداء الوجودي إلى كل من يخالفها: العلويين، والمسيحيين، والدروز، والشيعة، واليساريين، والليبراليين، والكرد، والعرب غير الإسلامويين… بل وحتى المسلمين المعتدلين. أي أن أغلب الشعب السوري – بمكوناته السياسية والاجتماعية والدينية – سيكون مستهدفا، آجلا أم عاجلا ،من قبل هذه الجماعات.
فأي وحدة وطنية يمكن أن تُبنى في ظل سلطة ترى أكثر من ثلثي الشعب “مرتدًا” أو “كافرًا” أو “خارجًا عن الشرع”؟ وأي دولة يمكن أن تنشأ على أنقاض نظام مستبد إذا كان من سيخلفه أكثر إقصاءً وأقل وطنية؟
بين الجماعات الموالية لتنظيمات مثل “القاعدة” أو “هيئة تحرير الشام” أو “داعش”، أصبح الانتماء للوطن مستبدلاً بولاءات عابرة للحدود، قائمة على مفهوم “الأمة” لا “الدولة”، و”الجماعة” لا “الشعب”. وهكذا، لم يعد الصراع في سوريا صراعًا سياسيًا، بل تحوّل إلى صراع هويات طائفية و مذهبية تتنازع الأرض والسلطة .
النتيجة الحتمية لذلك هي تفكك سوريا إلى كيانات طائفية و مذهبية مسلّحة يستقوى كل منها بقوى عالمية أو إقليمية ، وانهيار فكرة الدولة الوطنية التي تسعى لتأمين مستقبل مشترك للجميع بقطع النظر عن الانتماء الطائفي أو المذهبي أو العقائدي .
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد خلاصًا للشعب السوري ، بل بداية معركة جديدة رهانها بقاء أو تفكّك الدولة السورية. وإذا لم يتمكن السوريون من إنتاج قوة سياسية وطنية جامعة تقطع مع الاستبداد كما تقطع مع الأصوليات الجهادية، و هذا أمر مستبعد جدا ان لم نقل مستحيلا،فإن البلاد مقبلة على مرحلة أشد فتكًا: مرحلة التفتت الكامل، والانقسام الجغرافي والطائفي، حيث تتحوّل سوريا إلى مسرح دائم لصراعات الوكلاء، بلا دولة، بلا سيادة، وبلا أفق.
