الكاتب: د.عطية حامد
المتتبع لحالة الاسهال الكلامي و التحليل التكراري الذي انتهجته قناة الجزيرة الفضائية منذ اكثر من شهرين لمتابعة و ابراز حالة اختفاء الصحفى السعودي جمال خاشقجي و حالة العُسر و الاقتضاب الذي اتبعته قناة فرانس 24 لموجة تظاهرات اصحاب السترات الصفراء التي انطلقت من باريس منذ شهر ويزيد و الذين أحرقوا معالم الشانزليزيه و حاصروا أبواب قصر الاليزية، يرصد بسهولة ان اليات الحرب الجديدة باستخدم التقنية الصامتة قد دخلت للخدمة و إن الإستخدام السلبي لهذه الميكنة في إطارها الإعلامي و على المستوى الدولي أصبح جزء من ما أطلق عليه استاذ العلوم السياسية و مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق Joseph Nye مفهوم القوة الناعمه Soft power و بالتالي فان ديناميكية هذه الميكنه تعيد ذاكرتنا الى حالة الصخب و الترويج الذى تبنته بعض المنصات الاعلامية في تهييج الشارع العربي اثناء انطلاق ما عُرف بالربيع العربي عام 2011 مستفيدة من حالة قصور الإعلام العربي الرسمي و إنعدام الشفافية و ضعف أداء المؤسسات العربية بشكل عام و فقدانها للبوصلة التى تقود الى بناء جسور الثقة و المصدقية بين أركان السلطة والجماهير.
و لعل اشهر هذه المنابر هو منبر قناة الجزيرة الفضائية و التى تأسست عام 1996 برأس مال قطري و قدره 150 مليون دولار، و تزامن مع ظهور هذه القناة اغلاق القسم العربي بقناة BBC البريطانية و الذي كان يخطف أسماع الشارع العربي و ساسته و مُحليليه، و بذلك فقد فُسح المجال لهذه القناة لتكون البديل و تستقطب جموع المتابعين لجاذبية إمكانيتها التقنية و الفنية و طرحها للمواضيع و القضايا الساخنة و تغطيتها للأحداث الهامة و مواكبتها لحملة الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، و لعل نقلها لصورة الدبابة الأمريكية من على جسر (السنك) الذى يتوسط العاصمة العراقية بغداد يوم 9 افريل 2003 قد حسم معركة العاصمة لصالح الغزاة و التى توقع لها المحللين العسكريين الامريكيين انفسهم بانها تحتاج الى فترة زمنية تتجاوز ستة أشهروذلك لقوة التحصينات التي نقلها الجيش العراقي الى مداخل العاصمة، ظهرت هذه الصورة في الوقت الذي كان فيه وزير الاعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف ينتصر ببلاغته و بمؤتمره الصحفي اليومي و هو يفند حقيقة الصورة و يصف حالة تقهقر “العلوج” حسب وصفه، و يتفاخر ببسالة رجال المقاومة على مداخل و أسوار بغداد ، رفع الرجل صوته عاليا و مدويا الا ان اصوات جنازير العربات العسكرية الامريكية و دفوف هذه المنصات الاعلامية كانت اعلي و اقوي فسقطت عاصمة الرشيد لتتساقط من بعدها عواصم الرفض و الممانعة كسقوط حبات المسبحة !!!
و قتها لم تكن المنصات الإجتماعية من (فيسبوك وتويتر) قد ظهرت بعد حتى جاءت أحداث الربيع العربي عام 2011 و التي كانت شرارتها تونس عندما أحرق محمد البوعزيزى نفسه لتشتعل المنظقة من بعده، و إنطلقت عدة صفحات من على شبكة الفيسبوك بتونس تدعو للثورة و التظاهر و تصف البوعزيزي بالثائر (الذى أحرق جسده ليشعل نوراً في ظلمات الإستبداد التونسي) الأمر الذي دفع بالالاف من التونسيين للتظاهر و الإحتجاج، رغم أن السيد عدنان منصور مدير الديوان الرئاسي و المتحدث بإسم رئاسة الجمهورية بتونس قد فند ما يشاع على أن البوعزيزي هو وراء إندلاع الثورة في تونس، قائلا أن البوعزيزي ” تحول من ظالم الى مظلوم” انه هو من اعتدى على موظفة البلدية في مدينة سيدي بوزيد و اشار الى أن العائلة قد إستفادت من هذه الحادثة و إنها تعلم أن المواجهة مع السلطة هي “دعايه كاذبة”، إنتهى الإقتباس.
و مثلما غادر تونس الرئيس زين العابدين بن على الى منفاه بالسعودية مجبراً، فقد إختارت عائلة البوعزيزي اللجوء الى كندا مكاناً للعيش و الإستقرار و بالطواعية موطناً، لتترك لنا ضبابية في المشهد السياسي التونسي ما بين رد كالية إسلامية تُصدرها لدول الجوار و تهدد مستقبل المورد السياحي التونسي و ما بين ليبرالية ديمقراطية منفتحة تتجاوز ثوابت الدين و تلامس معايير الاخلاق و الإلتزام.
اتسع الربيع في الإتجاه شرقاً متجاوزاً ليبيا نحو مصر صدفتاً أو قصداً و يواكبه نشاط المنصات و يغذيه نشاط المدونين و لعل ابرزهم الشاب المصري وائل غنيم و الذى كان يشغل المدير الإقليمي لتسويق منتجات “شركة قوقل العالمية” بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ظهر غنيم في فترة وجيزة مع بداية الأحداث في مصر كناشط سياسي على شبكه الفيسبوك محرضاً الشباب المصري على الخروج و التظاهر بميدان التحرير بالقاهرة، و لربما ذروة نشاطه خلال الأحداث هو ظهوره في لقاء تلفزيوني بالبرنامج المعروف “العاشرة مساءً” على قناة دريم الفضائية بعد اطلاق سراحة من توقيف السلطات المصرية له لمدة عشرة ايام على خلفية نشاطه في تحريض الشباب المصري للتظاهر و الخروج، حيث تحدث خلال اللقاء عن ظروف إعتقاله و اهداف المظاهرات التى كان يدعو لها و اجهش بالبكاء أثناء اللقاء حتي انه إنسحب من البرنامج الذى كان يتابعه ملايين المصريين، دموع وائل غنيم و انسحابه حركت احاسيس العطف و التأييد له و تضاعفت أعداد متابعيه على صفحته بالفيسبوك حتى وصلت خلال يوم واحد من ظهوره باكياً 200 الف متابع للصفحة، كما استحدث صفحة جديدة أطلق عليها إسم ” افوض وائل غنيم المتحدث باسم ثوار مصر” انتصرت صرخته و حدث التغيير في مصر الا أن وائل قد إختفى بعد ذلك و لم نعد نسمع عنه شيئاً حيث غادر مصر ليستقر له المقام بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية.
هي ذاتها المنصات التى مهدت للحراك و التظاهر بليبيا و ان اكبر الصفحات الداعمة للتظاهر التى ظهرت على شبكة الفيسبوك كانت قد تأسست بتاريخ 28جانفي 2018 تزامناً مع الحراك المصري و ان كانت التظاهرات تدعو الى الاصلاح و حرية التعبير و هذا حقها فإن هذه المنصات كانت قد دفعت الى التغيير و الرحيل، و في مشهد درامي اعاد شلقم سيناريو دموع غنيم و هو يحتضن السفيرة الامريكية “رايس” في ردهة مجلس الامن لطلب العون، و اليوم و قد غادر الجميع بمن فيهم دوغه و تربل و عبد الجليل، و من لحق بهم من المستفدين، غادر المنتفعين سماسرة الاعتمادات و المهربين و مورادي المواد الغذائية منتهية الصلاحية ، غادرو كل هؤلاء و بقت الجماهير تصطف في طوابير نقص السيولة و معاناة ارتفاع الاسعار و توزيع الاحمال.
هي ذاتها المنصات الاجتماعية التي اعتلاها “المتمشيخين” شيوخ البلاط و دعاة الدين لعدم صحة التغيير و ممارسة حرية التعبير في السعودية و البحرين، هي ذاتها المنصات التي صُدرت أصواتها في بلدان عربية أخرى و اخذت على عاتقتها و نفقتها دعم و تموين مشاريع الديمقراطية لدي الآخرين !!!
في الغرب حيث تعتبر هذه المنصات ادوات حرة للتعبير لكنها ليست للسطوة اصحاب الاجندة و الايديولوجيات و تمرير المصالح و التأثير، ففي اسبانيا مثلا و تزامناً مع التظاهرات التى اجتاحت المنطقة العربية عام 2011، تحركت التظاهرات الشبابية نحو ميدان الشمس بالعاصمة الاسبانية مدريد احتجاجاً على الاجراءات التى اتخذتها الحكومة و التي اعتبرتها قد فاقمت ازمة البطالة رافضة لسياسات التقشف التى اتخذتها الحكومة في ذلك الوقت، حيث نصبت خيامها بالميدان لمدة شهرين تعبيراً و احتجاجاً و لم يغادروا الميدان حتى اعلنوا على تأسيس حزب سياسي جديد اطلقوا عليه اسم “القادرون PODEMOS” وهي القوة السياسية الشبابية الجديدة التى احتلت اربع مقاعد في البرلمان الاوربي عام 2014 في اول مشاركة انتخابيه لهم و اسسوا لحالة التوازن في مقاسمة مقاعد البرلمان الاسباني في اخر انتخابات برلمانية جرت بالبلاد، هذه القوة الشبابية الجديدة هزت عروش الحزبين التقليديين “PSOE-PP” اللذين يتقاسمان النفوذ و السلطة باسبانيا لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً.
و اليوم هي نفسها المنصات التى اتخذها اصحاب “السترات الصفراء” بفرنسا نقطة تواصل وضغط و ترتيب، ان اصحاب السترات الصفراء و ان جمعهم لون سترتهم الصفراء الا انهم يمثلون قوى اليسار و الوسط و اليمين مغلقين بذلك باب التكهن و التخوين، تعددت دعواتهم للاحتجاج منذ ما يقرب من شهرين على قرارات الحكومة الفرنسية في زيادة الضرائب و رفض المشروع المقترح لزيادة اسعار المحروقات و ان استجابت الحكومة الفرنسية مؤخرا بتجميد هذه القرارات الا ان اصحاب السترات اصبحو يتحدثون عن ضرورة استجابة الحكومة الى مطالب اخرى من بينهما خلق فرص العمل و توفير الخدمات و مطالبات بوقف ماسموه بتمدد هيمنة الليبرالية الجديدة و جشع اقتصاد السوق !!!
الحديث اليوم يدور حول اصداء حراك اصحاب السترات الصفراء الذى بداءت ملامحه في باريس وانتقل الى بركسل و لكسمبورج و برشلونه، و ان صدقت التحليلات فان حالة الاصفرار هذه قد تغطي كل اركان اوروبا كما التحفت المنطقة العربية بربيعها قبل سبع سنوات و التاريخ يعيد نفسه من جديد و ان شرارة الثورة الفرنسية قد عادت بعد مئتان و ثلاثون عاماً الى موقدها الاول باريس.
في كل الاحوال لا احد يستطيع ان يتكهن او يتوقع اين و متى تتوقف حالة الاصفرار، لكنه من المؤكد ان نتائج هذا الحراك سوف يكون مختلفاً عن نتائج هزات الربيع العربي الذى اكتسح المنطقة ولا يزال، رغم استخدام كلاهما لذات المنصات الاجتماعية و الاعلامية كالية من اليات التحريض و التواصل و تحقيق الهدف و فرض التغيير.
دبلوماسي ليبي سابق و استاذ جامعي