سلاما على من يحبّ السّلام…
سلاما على الفنّان…
سلاما على الفنّ…
سلاما على المسْرح…
أمّا بعد :
إليكم تبصُّري في مسرحيّة “ثورة الرّضع ” للمخرج” خالد اللّملومي
صديقي الفنّان خالد اللّملومي يهْمسُ : إنّي عائدٌ إذا أراد أن يقول إنّي مسافرٌ أبدًا، و نحن على درب الحقّ إذا كان مودّعا قُبيْل أنْ يغادر خشبة المسْرح.
تلك كانت حيلته في تعْزيم القدر و تلك كانت تعْويذته في اسْتشْراف حال البلاد آناء الإعداد لعمله المسرحيّ الجديد “ثورة الرّضّع” في كانون الأول 2018 قبْل أن يستيقظ الشّعب المغْدور في آذار 2019 على شناعة الحادثة الأخيرة التّي هزّت الرّأي العام لوفاة 14 رضيعا أوْ أكثر في مستشفى الرّابطة بالعاصمة في ظروف أقلّ ما يقال عنها فاسدة ليجد على وقعها مولود “العرض الميميّ” المُقرَّر بذوره الاستباقيّة في قلْب الفجيعة و ظلاله الرّاجفة الحزينة في عيون المُحبّين للفنّ الرّابع الأصيل و أكفّهم.
فكان حُبّ العمل مرّتين : مرّة في فنّيته الهزليّة – الجدّيّة السّاخرة و مرّة في صورة المأساة التّي تُشبهنا.
الصّدمات تلو الصّدمات إلى منتهى التهكّم و الهزء… التمثّلات و الانفعالات و الإيماءات و الإشارات و المزق الصّوتيّة المشفّرة التّشخيص الحركي الكوميدي الأسود للأزمات المادّيّة و النّفسيّة و الأخلاقيّة الأجساد المُروّضَة سيميولوجيّا و دراميّا، الرّسائل الفكاهيّة الانتقاديّة المضمرة للفرْد بما هو كائن مشيَّأ مُستلب التّحبيك الفرجوي المكتوم – الجائش الأضواء النّاصلة و الأضواء المِغْراء و اللّاضوء و الخشبةُ – المأتَم و الفراغ …
هلْ هو فراغ أزليّ نرْهق أنْفسنا كلّ يوْم في سدّه سدّا ؟ الاختلاجات…زْزْزْ…عْعْعْعْ… نْنْنْنْنْ…عِنْ عِنْنْ عِنْنْ عِنْنْنْنْنْ…ههههه عععع نننن..؟ أهي سعادة المعْتوهين !!؟ أهو طنين البشر الأحياء – الأموات ؟ أم ذبابات خيال المخرج ؟ أهو كابوس الوطن المسْروق أم وطن الكوابيس الموبوءة ؟!
إنّها قدرة المسْرح الحركي الصّامت على سرْد القلق و الخوف و التّضاد و الأوجاع و تفجير المآزق الصّائتة السّاخطة في لغة فيزيقيّة و سينوغرافيّة مُزاوجة للمتعة و المِلْح و الحيرة، قدرةُ الميم / البانتوميم على التّسلية الهادفة و مُجادلة العقل الجمعي المتابع بالخطاب السّيميائي الرّمزي المُترجم لقضايا الذاّت و المجتمع.
إنّها البارودياالسّياسيّة – الاجتماعية الرّاصدة لحاضر الملل و التشنّج و الرّكود و اللاّجْدوى و قد تمسْرحت في لبوس الفنّ المقهور الهارب من مقصلة الدّولة و مخاوف الكلمة المنطوقة.
إنّها المفارقات الإيحائيّة الصّارخة بين متطلّبات رمزيّة “البزّة المهنيّة البيضاء” و انحدار رجل الطّبّ إلى مستنقع التّفاهة و الاهمال
و التنكّر للواجب. فهلْ كان “تمزّق الطّبليّة و انقسامها / الزّي الرّسمي الطّبّي و الوطني و الإنساني في بعْد أوسع، تلك المرآة المعنويّة المجلوّة التي يتماهى فيها التفكّه بالصّراع إعلانا لطغيان المبادئ السّلطويّة ذات الطّابع المادّي النّفعي و الخصاء الأخلاقي المتجسّد بوضوح في النّيل من “الميدعة الرّمز” بافتكاكها اعتباطيّا لا استحقاقا و برمْيها ثانيا في عراء الخشبة كتنصّل من المسؤوليّة و العقاب بعْد نحْر “أمّ الرّضّع السّتة” ؟ هل تعكس في بعد خفيّ منها قضيّة التّناحر على التّسمية و المناصب و السّلطة؟ قضيّة الشّعب المشتّت شذر مذر بين معسْكر حداثوي و معسْكر محافظ ؟ قضيّة الصّراع على الكرسيّ و ملكيّة الثورة ؟ ألا يشي عنوان المسرحيّة “ثورة الرّضع” في وجه منه بقراءة ساخرة لثورة “الرّبيع العربي“ فثوّارها رضع تعوزهم الخبرة و النّضج و الرؤية و القدرة على إتمام المسار التّحرّري و الوصول بحلمهم الى برّ الأمان ؟ أو لعلها هي “الثّورة الرّضيعة الموؤودة” من قبل ساسة مُقنّعين أجادوا مسْرحة البطولة.
أمّا على أرض المسْرح التّجريبيّ فيخبرنا واقع ما بعد الثّورة من خلال المُمثّلين عن كتل بشريّة لا تفاصيل لها و لا تمايز كأنّما تقبيح مظهرها الخارجي هو تهجينٌ كاريكاتوريٌّ ماسخٌ و مقْصود تبدو من نسيجه صورا لكائنات شبه وجوديّة محشُوّة في قماط مُوحّد الشّكل ماحٍ للهوّيّة كاشفٍ لانسحاق و انهيار المواطن المهمّش الوضيع أمام متاريس قوى الغطرسة و التجبّر، كما تتبدّى لنا الوجوه ضئيلة مخلخلة متغرّبة متشابهة متهالكة متبرّمة من الحياة تشكيكا مصابة بشيء من هذيان العصر و تخلّع السّلوك الشّائه اللاّمسؤول.
أ هو انقطاع الأمل عنها أم تخطّي مرحلة الانسان ؟ لعلّها عتبة ما بعد العبثيّة و فلسفة الضّحك الملتهب الممزوج بهيستيريا الجريمة
و الموت الرّاهن فلسفة تُعرّيها لحظة تراجيكوميديّة حاسمة في خطّ القصّ البانتوميمي لمسرحيّة “ثورة الرّضّع“ لحظة الحركة الانطباعيّة التّجسيديّة لاكتشاف الكارثة لحظة الحركة الاصطلاحيّة الانتقاليّة من كلمة “دَمْ إلى ثُنائيّة” َدمْ ، دَمْ “فَ” دَمْ ، دُمْ دَمْ ، دَم “ثمّ” دَمْ دُمْ تاك دَمْ ، دُمْ تاك تاك دَمْ” و تكرارها مُطوّعة وnمضْبوطة إيقاعيّا حتّى تتداخل تدْريجيّا بألحْان الشيخ إمام “شيّد قصورك” و تذوب نهائيّا أو لعلّها تنطفئ إيذانا ببوادر “ثورة رشيدة“ و كأنّ بالرّضّع أكْباد تونس “لولّادة المغتالة” و من ورائهم المخرج خالد اللّملومي يصْرخون في روح كلمات أحمد فؤاد نجم :
…و اتْقلْ علينا بالمواجع …احْنا اتْوجعْنا و اكتفينا
و عرفنا مين سبب جراحنا… و عرفنا روحنا و التقينا
عماّل و فلاّحين و طلبه… دقّت ساعتنا و ابتدينا
نسْلك طريق ما لهشْ راجع… و النّصر قرّب من عنينا
إلّا أنّ النّسق الثّوري سرْعان ما ينْكسر إلى فرائحيّة تهْريجيّة مُربكة و فظيعة. إنّه الكوميك الدّموي و التّلاعب و التّنفيس. إنّها مقابلة المصائب و النّوائب بالبداهة و التلذّذ و الابتذال المُخادِع. إنّها معانقة القدر اليائس و التأرجح الدّرامي القاتم بين الهزليّة و المرثيّة.
إنّها احتفاليّة الفشل و الفساد و السقوط التراجيدي. إنّه الجنون الآثم و التغنّي العجيب بالشّذوذ و التفسخ و حيوانية الإنسان المعاصر و وحشيّته القاتلة… إنّها العدميّة المقيتة و فوضى القيم و التّطبيع مع الدّم. إنّها التّعرية و نقمة الدّراماتورج الواعي على معايير الواقع و المجتمع و سلطة الجور و القهر و الإحباط تثور على فحْوها ثائرة الضّحايا الرّضّع يجأرون في مكبّرات الصّوت و قد انتفضوا بعْد جزْر أمّهم بسواطير “سفّاحي الدّولة“ مدفوعين بغضب حقيقيّ – سريالي مُندِّد كما لو أنّها دعوة صريحة “للتّطهير الذّاتي و الاجتماعي” المشْروط بالعنف الثّوري و كما لو أنّ الثّأر قد أتمّ المشهد الأصلي بالبديل المسرحي المُقاوِم أو أزاحه بالمغايرة
و اللاّمعقول أملا في إدانته و تجاوزه و خرقه و إثارة الفكر و التفكّر و التفكير فيه و كما لو كانت الدّملة الواقعيّة قد أُفرغت مجازيّا
و فنّيا من قيحها المخزون في قالب فانطاستيكي ساهم بجدارة في خلْق ملْمح فرجويّ كروتيسكيّ هادف و إثارة ذهنيّة و وجدانيّة تثويريّة مستفزّة للمتفرّج المقهور بذاته المنخور من الدّاخل.
و لئن أحالنا الممثّلان ضو حمزة خلف الله و حمزة بن عون في مواجهة النّظير الافتراضيّ “الرُّضّع” على ثنائية قاهر و مقهور كنموذج متفشّي في كافّة العلاقات : الرئيس بالمرؤوس ، الرجل بالمرأة ، الكبير بالصغير ، الغني بالفقير، القوي بالضعيف ، الأستاذ بالتلميذ ، السّلطة بالمواطن ، اللّوبي الثّقافي بالفنّان ،… فقد تسلّحا بألوان مراوغة من الميكانيزمات الإضحاكيّة و الحالات البائسة المُتندّرة التّي تتحرّك من فرط الغيظ و العناء كبلاغة للممقهورين لتؤجِجَ فينا السّؤال التّالي : ألا يمكن لموظّف صحّة محدّد كإنْسان مقهور اجتماعيّا بحكم الخور و الظّروف الصّمّاء التّي يمارس فيها عمله أنْ يكون داخل أسرته قاهرا لزوجته و أطْفاله ؟ و تكون ظروف القهر الخاصّة به هي التّي تكشف عن طبْعه كمقْهور – قاهر لمرْضاه ؟ و ذلك على اعتبار أنه في مجتمع تسلّطي سائب تتظافر فيه أشكال القهر و تُمارس عبر العلاقة مقهور – قاهر إلى الأمْداء التّي يصبح فيها كل إنسان ، كما ذهب أوكستو بوال ، مقهورا ممّن يعلوه ، قاهرا لمن يدنوه ، وكأننا بالضبط أمام تسلسل إجباري للقهْر ، وهو تسلسل نجد له مثيلا في التراتبيّة الوظيفيّة : من رئيس حكومة إلى وزير صحّة و من رئيس قسم جامعي بمستشفى عمومي إلى طبيب ، و من طبيب إلى طبيب مساعد يليه ، فممرّض ، فمريض ، فشعب مريض.. كل حلقة في السّلسلة هي ممثلة من طرف مقهور، هو بدوره يمارس قهره ، على الذّي يليه وأحيانا على الذّي يلي منْ يليه ، والذّي من جهته يمارس القهر على شخص آخر و هكذا …
عرفانا للقيم الفنّيّة الجماليّة الإنسانيّة التّي أفرزها الفنّان الشّاب خالد اللّملومي نأمل أنْ لا تبقى هذه التّقليعة الفنّية البكر“ثورة الرّضّع” مجهولة متجاهلة كأكداس من روائع الكبار في العالم العربي من قبيل الماغوط و عبد الكريم برشيد و ألفرد فرج و يوسف إدريس و عبد القادر علولة و محمد الفلاك و فرحان بلبل و رياض عصمت و الطيب لعلج و لحسن قناني و أحمد بودشيشة
و غيرهم…
و التّي لا تزال تنتظر هي الأخرى من ينتشلها من متاهة النسيان عسى أنْ تنال ولو نزرا من المتابعة النّقديّة (النصّيّة الصّرف و الرّكحيّة) الدّقيقة و الرّصينة على غرار الحظوظ التّي لقيتها الإبداعات الكوميدية للثقافة الغربية انطلاقا من أعمال أرسطوفان مرورا بأعمال موليير و كورناي و ماريفو وصولا إلى أعمال شوبنهاور و بريشت و دورينماتو داريوفو …
أخْتم بمُناوشة سايكولوجيّة أخويّة إذْ أُخمّن أنّ رُوّاد هذه الملهاة الجادّة لم يُنتجوا أو يصْعدوا الرّكح ليمثّلوا و إنّما ليعيشوا هم الفارّون من أمْسهم و حاضرهم المفكّك المعوق هم اللاّهثون من زحام المعيش المرّ هم لا يُمثّلون الحياة بلْ يَحيون التّمثيل و هم لا يتقمّصون الشّخوص التّي يعرضونها بل هي التّي تلْبسهم في جلد يصنعونه لها من نار لحْمهم الحارّ يستحيل معها الوجود المسرحيّ على الخشبة معادلا تصعيديّا لبسط الحياة و الألم و الأمل.
و لذلك فإنّ “ثورة الرّضّع” بكل هذه المعاني و الحيثيّات هي شهادة دراميّة حيّة على انحطاط القيمة و ناطقة بكل ما يحيل على تردي الإنسان المتآكل في ذاته و وطنيّته و كينونته و الممسوخ في آدميته و بشريّته. هي كوميديا الإنسان المقهور و الضحكة فيها لا يمكن أن تكون إلاّ صدى ل “بَكْية” مخنوقة و غيمة إبداعيّة يعلو بها هذا الإنسان على شوكة الموت.