بقلم أسعد جمعة
منذ مهد الفكر الإنسانيّ، و تحديدا في القرن السّادس قبل الميلاد، أفصح الحكيم الصّيني كنفوشيوس Confucius عن قولته المأثورة: “السّياسة بلا أخْلاق إجرامٌ”، و منذ تلك العصور الغابرة ما انفّكت هذه الحكمة مدويّة في الآفاق، تترسّخ صحّتها على مرّ الأيّام و وفق “تجارب الأمم” على حدّ عبارة فيلسوفنا ابن مسكويه في وَسْمه لعلم التّاريخ.
و مع ذلك، فإنّ “حالة الوَعْي” التي ارتقى إليها، فيما يُشاع، القائمون على دولتنا لم تنه إلى مسامعهم هذا المبدإ الإيتيقيّ الذي تُبنى عليه لا الدُّول فحسْب، بل الحضارات بكلّيتها.
و إلاّ فما هذا التّكالب على السُّلْطة الذي نشاهده هذه الأيّام، لا حول ولا قوّة لنا على مقاومته، مكبّلي الأيدي بفعل ما هو من المُفْتَرَض أن يكون هبَة الفكر الفلسفي، حتّى لا نقول: هبة السّماء، للإنسانيّة قاطبة: النّظام السّياسي الدّيمقراطي.
إنّ انْعدام الأخلاق في ممارسة هذه الذّئاب المتلهّفة على كراسي الشّأن العامّ ستقود حتمًا لا إلى سقوطها فحسب، و هو لقاء عادل لما تقترفه أياديها ضدّ البلاد والعباد، بل أنّا ستفضي ضرورة إلى انْهيار الدّولة الحديثة في ربوعنا. هذه الدّولة التي أفنى الآباء و الأجْداد أعمارهم، بقيادة الزّعيم الحبيب بورقيبة، في بنائها.
و لنعُد إلى توصيف صورة الحال حتّى نتبيّن حقيقة الأمر.
من المعلوم لدى متابعي الشّأن العامّ أنّ عمليّة الإجهاض التي تعرّضت لها حكومة الحبيب الجمني كانت نتيجة لتسلّط تنظيم الإخوان في إمارة إفريقيّة من جهة، و نكوث حلفاء اللّحظة لعهودهم معها، و الإشارة هاهنا أساسًا إلى التيّار الدّيمقراطي و حركة الشّعب الذيْن اختلافا معها على حيثيّات تقاسم الغنيمة. فارتَمى إخواننا -الأتقياء جدًّا- في أحضان مَن نعتوهم بالأمس القريب بالفاسدين و أزلام النّظام البائد، و… و…؛ فأحسن هؤلاء وفادتهم واستقْبلوهم على الرّحب و السّعة… إلى حين أن قضى الله أمرًا كان مقضيّا… ففي الرّبع ساعة الأخير (باستعارة بورقيبيّة حسَنَة) أشهر أُجراء صاحب القناة لاء زمخشريّة ناصعة في وجه مريدي برلُسْكوني الخليليّ، بإيعاز من الرّأس المدبّرة لحزب رئيس الحكومة الحاليّ: تحيا تونس. فلُدغ المتحذلق للمرّة الثّانية من جُحْر واحِد في مشهَد أخلاقيّ سامٍ.
و بالمُحَصَّلَة، فإنّ حكومة الحبيب الجملي المرتقبة فقدت الأغلبيّة المُطلقة في مجلس نوّاب الشّعب، فتهاوت.
و الحقيقة أنّ هذا الفصل الأوّل لم يكن سوى تمهيدًا لثان أكثر دناءة و حقارَة. حيث أنّ بدايته كشفت للعيان من كان متستّرًا بأمير التّنظيم الإخوانيّ-فرع تونس في الفصل الأوّل من هذه المسرحيّة الدّراميّة-الهزليّة؛ ذاك الذي كان مندسًّا في ديوان المرحوم الباجي قائد السّبسي، يعمل جاهدًا في الخفاء على قتل الأب لحساب الابن يوسف الشّاهد. فوَزَّع ماكيافلّى العَصْر: سليم العزّابي الأدوار بين سائر الشّخصيّات؛ و قصده من وراء تلك المناورَة تضليل الأصدقاء المفترَضين قبل الأعْداء المحتملين. فكان أوّل ضحايا المكر العزّابيّ، حليف اللّحظة، ذلك الكائن الهلاميّ الذي لا طعْم و لا لون ولا رائحة سياسيّة له: قلْب تونس.
بقي على داهيتنا السّياسيّة أن يعثر على “عصفوره النّادر”: مرشّح لتكوين الحكومة يتوفّر فيه هذا الشّرط المعجِز: أن يكون منْتمٍ سابق لحزب سياسيّ “تقدّميّ” قد اندَثَر، مع ضمان ولائه التّاريخيّ لتنظيم الإخوان-إمارة إفريقيّة من جهة، والمؤسّسات المانحة للذّخيرة الماليّة من جهة أخرى؟ و كلّ هذه الخصال لا تتوفّر إلاّ في مرشّح واحد: وزير الماليّة الأبق في حكومة التّرويكا برئاسة علي العريّض: إلياس الفخفاخ.
و إلاّ فما سرّ وجود هذا الاسم إلى جانب أسْماء أخرى مشهود لها عالميّا بالكفاءة والاقتدار على قائمة مرشّحي حزب تحيا تونس؟ وما وجْه الشّبه بين المرشّح المُعْلَن لحزب حكومة الشّاهد: حكيم بن حمّودة، ومرشّحها الحقيقيّ: إلياس الفخْفاخ؟ أليْس الأوّل عنوان فشل السّياسة الإقتصاديّة والماليّة للتّرويكا، و الثّاني رمْز نجاح الفاعل الاقتصادي و الماليّ في كلّ مواقع القيادة التي تقلّب فيها؟ ألم يستحضر جباهذة هذا “الحزب” الإقتصاديّين أنّ وزير ماليّة حكومة التّرويكا هو السّبب الحقيقيّ في كلّ مآسي وضعنا المالي و الاقتصادي و الإجتماعي الرّاهن، من مديونيّة منهكة، و نسبة استثمار هزيلة، و تضخّم مفزع، و انهيار للعملة الوطنيّة كارثيّ، و انْخرام لجلّ التّوازنات التّجاريّة، وانْسداد لأفق التّشغيل، و خضوع تامّ لمنظومة صندوق النّقد الدّوليّ؟
و كلّ هذا الكوارث اللاّطبيعيّة إنّما انهالت على رؤوس التّونسيّين بفضل نظريّته الألمعيّة، الموسومة -خطأً في وضْع الحال-” الـ”ستُوب آند قاوْ” Stop and go، والتي لم نر منها سوى الـ”ستُوب”، أمّا الـ”قاوْ” فهو بمنزلة الفردوس الموعود بالنّسبة للتّونسيّ المنكوب. أ على هذا أساس هذا الكابوس سيجدّد التّونسيّون العهْد مع هذا السّفسطائيّ؟
و على كلّ هذه العلاّت، فإنّ رأس المكر السّياسيّ في اللّحظة الرّاهنة قد ضمن لحكومة الفخفاخ المائة وتسعة أصوات الضّروريّة لتزكيتها من قبَل مجلس نوّاب الشّعْب، مسنِدًا دوْر “الكمبارس” الأوّل للذّراع السّياسيّ لتنظيم الإخواني، الذي آثر وفق ما دأب عليه ألاّ يكون في الواجهة السّياسيّة، ضامنًا من ثمّة لنفسه إمكانيّة التّفصّي من تحمّل مسؤوليّة تبعات ممارسة الحكم كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. فالمكلّف بتشكيل الحكومة لن يكون ضمن قائمة المرشّحين التي اقترحها علنا، ولكنّ واجب ولائه وطاعته لمرشد التّنظيم ومجلس شوراه شرطان لا محيص عنهما. وهذه المواصفات متوفّرة في عصْفورنا النّادر، إلْياس الفخْفاخ، فهو لا ينتمي تنظيميّا إلى حركة الإخوان، و لكنّه تمرّس على واجب الطّاعة و الولاء للأمير و أعوانه لمّا كان عضوا بحكومة التّرويكا التي كان يترأسّها أحد أبناء التّنظيم الأبرار.
أمّا المكوّن الثّالث للحزام السّياسيّ لرئيس الحكومة المُرْتقَب، فيتمثّل في التيّار الدّيمقراطي الذي سبق لقيادته أن تورّطت في عقد شراكة مع حركة الشّعب، من جهة، و أعلنت معارضتها لرئيس الحكومة الحاليّ و لحزبه، رمزي الفساد و الاستبداد بعد نظام المخلوع.
كما أنّ رئيس هذا الحزب قد اسْتَتاب فتاب عن التّعامل السّياسي مع تنظيم الإخوان بعْد أن كان تحت إمرة أحد مريدي مرشدها العام، وزيرًا صُلْب التّرويكا. بحيث أنّ المخرج الأوحد بالنّية لهذا الحزب العروشيّ -حتّى لا ينفضّ من بقايا أنصاره الباقية من حول حزبه- ألاّ يرشِّح مباشَرَة المكلّف بتكوين الحكومة، مع عدم اعتراضه على شخصه في صورة ترْشيحه من قبل تنظيم سياسيّ آخر. و هو الأمر الذي ينطبق على المكلّف المُعيَّن: إلْياس الفخفاخ، فقد حرص هذا الحزب المتزيّن بقيمة مقاوَمة الفساد الأخلاقيّة على عنونة قائمة مرشحّيه بوثيقة عدم الممانعة. أفمن قيَم أخلاقيّة أرفع من هذه في ممارَسَة الشّأن السّياسيّ؟!
و مهما يكن من أمْر، فمن الأرجح أن تكون قسْمَة الكعكة الحكوميّة وفْق هذا التّوزيع الثّلاثيّ للأدوار، والضّامن لحصول حكومة الفخفاخ على أغلبيّة أصوات نوّاب الشّعب (122 نائبًا؟ -بما فيهم نوّاب كتلة الكرامة: 21 نئبًا)، على النّحو التّالي:
1 – نصيب الأسد لحزب تحيا تونس (14 نائبًا)
2 – يليه التيّار الديمقراطيّ (22 نائبًا؟)
3 – أمّا تنظيم الإخوان (52 نائبًا)، فسيكتفي وفقًا لخطّة التّمكين (أي تمكّنه من مختلف مفاصل الدّولة) بتزكية بعْض وزراء السّيادة (بالتّنسيق مع التّيار وبإشراف حزب تحيا)، حتّى في صورة إسنادها لحزب التيّار، على أن يستأثر بالخطط الوظيفيّة الأولى على المستوى الجهوي والمحلّي، والمنظّمات الوطنيّة؛ وهذه لعبة قد تمرّس بعد “مسؤولو” تحيا تونس على إتقانها بمعيّة الإخوان.
أمّا المعارضة (83 نائبًا)، فمن المنتظر أن تضمّ أساسًا كلّ من حزب قلب تونس (38 نائبًا)، والحزب الدّستوري الحرّ (17) وبقايا حركة الشّعب (15 نائبًا) ؟، وبقايا كتلة الإصلاح الوطني (13 نائبًا؟).
تلك هي حساباتهم الضيّقة التي لا تبني الأوْطان، أمّا فيما يخصّ شأن الدّولة التّونسيّة الحقيقيّ، فإنّنا و لئن كنّا على قناعة تامّة بأنّ هذه المنظومة السّياسيّة آيلة إلى السّقوط في المستأنف من الأيّام، فإنّ الخشية كلّ الخشية أن تنهار بعل سقوطها الدّولة بكلّيتها، هذه الدّولة التي دفع آباؤنا وأجْدادنا لقاء بنائها أعْمارهم وحياتهم. وماذا عسانا أن نقول، سوى التماس اللّطف لهذه الأرض الطيّبة؟!