تونس – “الوسط نيوز” – كتب : عبد العزيز قاسم
باسم الاهتمام بالحاضر تعمل الأيدي المتخصصة في محو الذاكرة على تشغيل ماكينة النسيان في تونس. ولقد جاء في المثل: “كل البلدان التي لم يعد لها من حكاية محكوم عليها بالموت بردا” والأمم الحية هي التي تذكر ملاحمها وتتحسس معالم طريقها للمرجعية والإضافة.
في مثل هذا اليوم من سنة 1955 عاد المجاهد الأكبر من آخر منافيه بفرنسا الاستعمارية وفي يده وثيقة الاستقلال الداخلي والجدير بالاعتبار في هذا اليوم التاريخي ليس العود في حد ذاته بل قدوم الجماهير وتهاطلها على ميناء حلق الوادي لاستقبال القائد المظفر آلافا مؤلفة وحشودا جاءت عن طواعية من مختلف أنحاء الإيالة أعدادا لا تحصى تذكّر إلى حد كبير بالسيول البشرية التي سبق أن جاءت هي الأخرى من كل الأرجاء، قبل سبع سنوات، لتشييع شهيد الوطن محمد المنصف باي إلى مثواه الأخير بمقبرة الجلاز. حدثت هاتان الاحتفاليتان في زمن الملاحم. ولقد ذهب الظن بمن عاشوا تلك الأحداث المشهودة إلى أن التاريخ سيتكرر بانطلاق المظاهرات العارمة التي عاشتها تونس جنوبا وشمالا، شرقا وغربا، خلال النصف الأول من شهر جانفي 2011 . وسرعان ما تبخر الحلم في غياب قيادة على مقاس اللحظة.
في مثل هذا اليوم عاد الزعيم، قائد الجماهير في معارك التحرير من هيمنة المحتل الدخيل ليرتدي بدلة قيادة الدولة الفتية والسير بها في مسالك التحرر من الجهل والفقر والمرض. وليخوض معارك التنمية والإنماء.
وسرعان ما أطل ثعبان الخلاف برأسه ونشب نزاع مميت بين زعامتين، الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، تحت غطاء “الاستقلال الداخلي، هل هو خطوة إلى الأمام أم إلى الوراء؟” واستفحلت الفتنة واتخذت شكل حرب أهلية ما زالت جراحها مستعصية عن الاندمال. في حين أن سياسة المراحل البورقيبية قد آتت أكلها إذ تحقق الاستقلال التام في أقل من عام من إحلال الاستقلال الداخلي
ويتفق الكثير على أن تونس المستقلة كان بإمكانها أن تؤسس لنظام يتوفر فيه الحد الأدنى من الديمقراطية ولكن الفتنة بما تولد عنها من أحقاد وثارات أدت إلى تركيز النظام السلطوي الذي ثار عليه الشباب الجامعي الذي لم يفهم مقتضيات مرحلة بناء الدولة.
ويبقى السؤال الكبير: هل كان بالإمكان تحقيق المكاسب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نفخر بها اليوم لولا ضرب من ضروب الاستبداد أي لولا وجود قائد له رؤيا وتصور مجتمعي وعزم وجرأة على الإنجاز أيا كانت الصعوبات؟ لقد اعتمد بورقيبة في كل ما سنه على شرعيته التاريخية وعلى ما يتمتع به من كاريزما ومن قدرة على الخطابة. يقولون أن بورقيبة ليس وحده فقد كان محاطا بنخبة سياسية تشاطره الرأي والفعل فيما يتعلق بالإنجازات الحداثية التي تم تحقيقها. هذا صحيح ولكن بورقيبة كان هو القادر على تمريرها.
لقد قبل الناس بمجلة الأحوال الشخصية وبالتنظيم العائلي (وهو الاسم الملطف لتحديد النسل) في تناقض صريح مع الحديث النبوي “تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم يوم القيامة”. وكان بورقيبة متعجلا في النهوض بالإنسان من خلال تعميم التعليم ونشر الثقافة العصرية. صحيح أنه لم يكن متسامحا مع حرية التعبير وما جرى للفنان الكبير الفذ صالح الخميسي من اضطهاد في بدايات الاستقلال لجرأة فكاهية اقترفها أحزنت الكثير من الناس وكانت من المؤشرات الأولى الدالة على أن حرية التعبير ليست في البرنامج. ولكن بورقيبة كان شديد الحرص على هيبة الدولة ثم إنه كان يصرح بأن تحرير العقول من الخرافة هو من أوكد أولوياته.
يحظى رمضان في تونس بتقديس استثنائي إلى درجة تشخيصه ومناداته ب”سيدي” وبالرغم مما يتضمنه من قيم روحية عليا فإنه أصبح بالممارسة شهر اللأكل والشهوات تتضاعف فيه مصاريف العائلة ويكثر فيه الشجار ويقل العمل ودأبت الإدارة والمؤسسات العامة والخاصة على التخفيض في ساعات الحضور بما يجعله أضعف شهور السنة مردودا.
وكان بورقيبة في حنق من ذلك فدعا إلى الإفطار وكان أن شرب كأس ماء أو عصير أمام الملأ ذات يوم من أيام رمضان لسنة 1960. ومهما كان تجرؤ بورقيبة على الدين فإنه حريص على الاستناد إلى برهان يبرر به اجتهاداته. من ذلك، في قضية الحال، اعتماده على حديث نبوي رخص فيه الرسول لمجاهديه، في أيام النزال، بالامتناع عن الصوم قائلا: “أفطروا لتقووا على ملاقاة عدوكم”. ورأى بورقيبة أن مقاومة التخلف هي أم المعارك بل هي الجهاد الأكبر وأمر بإبقاء المقاهي والمطاعم مفتوحة خلال الشهر الفضيل وأحدث ذلك تململا واسعا حتى في صفوف مناضلي الحزب الحاكم. وكان هذا محكًّا للعبقرية البورقيبية.
كان الوزراء يجوبون كامل ولايات الجمهورية للاطلاع على الأوضاع والاستماع إلى مشاغل الناس وكان الرئيس يستمع يوميا إلى نشرة الخامسة ظهرا لمتابعة نشاط وزرائه ويدعوهم إلى قصر قرطاج لمناقشة بعض ما ترامى إلى سمعه. وكان أن تشجع أحدهم فأبلغه امتعاض إطارات الولايات من الزوبعة التي أثارتها شربه الماء وتعسفه على تبرير الإفطار مضيفا أن كل أعضاء الحكومة تعرضوا إلى مثل ردود الفعل هذه. وهنا تتجلى الزعامة. قال الرئيس لوزيره الصريح: “أنا القائد أسير في المقدمة ولا يهمني كثيرا ما يقال في المؤخرة. الذي يهمني هو أعواني ووزرائي. بماذا أجبتم المنتقدين؟”
في العهد البورقيبي حتى المعارضة كان لها طعم آخر ونكهة خاصة وحتى خصومه كانوا يقرون بأنه درع صلب في مواجهة السلفية بأنواعها. بعض الثورجيين والحقوقجيين الجدد يقولون : “لسنا في حاجة إلى زعماء” وكأن شعبنا الغلبان قد بلغ سن الرشد والاقتدار. فلماذا نستغرب ما آلت إليه تونس من ضياع وإفلاس مادي ومعنوي على يد الهواة والقاصرين؟ نعيش اليوم مرحلة اللاّفكر. ولنا عودة.