-
كيف أفخر بمهنتي وأنا أراها تهان بشكل مرعب… هل أتاكم خبر أستاذة تُجَرُّ إلى المحاكم…
تونس – “الوسط نيوز” – كتب : عبد العزيز قاسم
منذ أشهر وأنا أروض النفس وأطهر القلم من رجس الفيس بوك وترهاته وحاولت أن أعود بالقريحة إلى الإبداع والبحث الجاد فالكتابة في زمن الضحالة تقتضي العمل بمقولة المضنون به على غير أهله ثم إن الجو غائم وفي غاية الاحتقان ولم أعد قادرا على تبين الخيط الأبيض من الأسود ولا راغبا حتى في التبين. ورددت قول أبي القاسم الشابي:
والوجودُ القديمُ أُقْعِدَ في الماضي وما أنتَ ربُّهُ فتُقِيمُهْ
وقررت أن أعمل بقول شاتوبريان: “اقتصد في صرف احتقارك نظرا إلى كثرة المستحقين”.
وقد يكون الاعتزال ضربا من إيداع الذات في مدخرات الجمهورية. كتاباتي الأخيرة كانت في الشعر والتاريخ: أصدرت ديوانا جديدا وأنا مقبل على إتمام كتاب في الانتظار من زمان.
منذ سنين وأنا أتلقى كل يوم جرعة من الأخبار السيئة بكامل مساحة العالم العربي: الدول الفقيرة تزداد فقرا على فقر والدول ذات الريع البترولي تبذر ما رزقها الله في تدمير الأقطار الشقيقة مرضاة للعدى ممن يبتزونها ويضحكون على ذقون أشياخها.
ماذا فعلوا ويفعلون بسوريا والعراق وليبيا واليمن؟ ماذا فعلوا ويفعلون وبأشلاء فلسطين؟ ماذا يفعلون الآن بلبنان الحضارة ؟ لبنان أقرب البلدان إلينا على الإطلاق، نشترك في إرث فاخر وما أدراك ما إرث قرطاج المجيدة. آه ما أقسى أن ينكّل البعير بأسْد الشرى تجويعا وامتهانا. آه من شر خير أمة أخرجت للناس.
لو ذات سوار لطمتني. من أين أبدأ وإلى أين أنتهي؟ لقد اتسع الخرق على الراقع.
لقد تقلدتُ، أيام كانت تونس في عزها، مناصب عدة في مجالات الثقافة والإعلام والتربية ويسوؤني ما أرى من سوء الحال في هذه القطاعات المنكوبة ولكني أبقى أولا وآخرا رجل تعليم. أنا اليوم متقاعد وكثيرا ما يستوقفني في الطريق أو يكتب إليّ عبر شبكة التواصل بعض طلبتي القدماء يحييني ويذكّرني بما كنت ألقيه من دروس لا تخلو من”خرجات” ثقافية وطرائف فكرية ولغوية توسع من مساحة المعرفة وترسخ المعلومة. هذه التحيات والإشارات الودية تهزني وتبعث في نفسي شحنة اعتزاز بل وتثير فيّ ما يشبه الحنين إلى الزمن الجامعي الجميل.
ولكن حتى هذا الفرح بدأ يتعرض إلى التنغيص. كيف أفخر بمهنتي وأنا أراها تهان بشكل مرعب. هل أتاكم خبر أستاذة تُجَرُّ إلى المحاكم وتتعرض إلى هرسلة غير مسبوقة لأنها أسندت صفرا لتلميذ صادف أن تعرض إثر ذلك إلى وعكة صحية.
نتمنى له الشفاء العاجل ولكن ما ذنب الأستاذة؟
عجبي أن يقبل القضاء مثل هذه الدعوى أساسا. شاهدنا منذ ما يزيد عن عقدين شريطا بعنوان “مخاطر المهنة”بطولة جاك بريل يتعرض فيه أستاذ إلى تهمة تحرش كيدية كادت تؤدي إلى اغتياله. اليوم يتسبب تصفير تلميذ إلى ما لا تحمد عقباه.
وعلى وزارة التربية أن تتحمل مسؤولياتها. في الماضي عندما كانت المدرسة تخرّج النخب والكوادر كان الأساتذة من شدة الحزم يسندون أعدادا تحت الصفر (وهذا في حد ذاته ظلم) ولكن لم يتعرض أستاذ ولا تلميذ إلى أية مضاعفات من جراء ذلك.
إن التغيير نحو الأسوأ يداهمنا.
تحياتي ومساندتي المطلقة إلى الزميلة الأستاذة فاتن بن سلامة.