آمال قرامي *
صدرت النيابة العمومية ببنزرت بتاريخ 1-4-2020
أوّلا: بطاقة إيداع بالسجن في حق المرأة التي شتمت الأمنيين و حرّضت الناس على منع دفن المرأة المتوّفاة بفيروس الكورونا، و ثانيا: بطاقات إيداع بالسجن في حقّ مجموعة من الرجال الّذين شاركوا في أحداث العنف ضد الوحدات الأمنية في الجنازة.
و لكن ما الذّي دفع هذه المرأة، و من آزرها إلى الوقوف بوجه قوّات الأمن في سياق يفترِض الخشوع و الاحترام و الانضباط ؟ هل يعود الأمر إلى حالة نفسيّة معبّرة عن القلق والذعر من الموت ؟أهو الخوف من العدوى؟
هل يبرّر هذا السلوك المنفلت بالجهل الّذي يجعل فئة من الناس تحتكم إلى ما ترسّخ في الذهن من تمثلات حول بعض الأمراض (البرص، …) و الأوبئة فتردّ الفعل باستعمال العنف دون الرجوع إلى آراء الأطباء المختصين؟
تقتضي الموضوعيّة الإقرار بأنّ المسؤولين عن إدارة الأزمة (من وزارت وقطاع إعلامي و مجتمع مدنيّ) خطّطوا و استعدّوا و نظروا في مختلف الاحتمالات و نقلوا المعلومات، و أرقام الأطباء النفسيين و غيرهم …
و لكن لم يفكّر أحد في تنظيم حملات التوعية الاستباقية التي تنبّه التونسيين، قبل موت أوّل ضحية بالفيروس، إلى الإجراءات الخاصّة بدفن الأموات في سياق الجائحة حتّى يتفهّموا الوضع، و الحال أنّ ردود الفعل كانت متوقّعة منذ حادثة احتجاج سكّان حمّام الشطّ، وبعض المسؤولين على إيواء المرضى في أحد النزل. لقد كان بإمكان خليّة الأزمة أن تقرأ هذه الإرهاصات الدالة على سلوك التونسيين تجاه المصابين: المرضى و الأموات على حدّ سواء، وأن تضع الخطّة الملائمة لمواجهة ردود الفعل، و لكنّها لم تفعل.
و هكذا تُرك الأمر لأحد الصحفيين ليغطّي خبر دفن أوّل امرأة ذات ليلية ظلماء، فكان بمثابة الصدمة للجمهور الذي شاهد الصور أو الفيديو.
و لا يعدّ سلوك عدد من التونسيين شاذّا. ففي العراق تمسّكت أغلب العشائر بموقف رفض دفن موتى فيروس الكورونا في مناطقها، و اضطرّت المستشفيات إلى الاحتفاظ بالجثث في الثلاجات في سياق ترتفع فيه أعداد الضحايا يوما بعد آخر. واجبرت الحكومة إلى الاستنجاد بالمرجعيّات الدينية لإقناع الناس بضرورة تفهّم الوضع و التعاون مع السلطة و بث الطمأنينة في نفوسهم إذ ثمّة إجراءات تعقيم للجثّة ولفّها في أكياس خاصّة وتابوت محدّد.
وهكذا لم يعد “إكرام الميّت دفنه ولم يعد دفن الموتى أمرا يسيرا بل صار موضوع قلق وخوف وغضب بالنسبة إلى الأقارب والأهالي بعد أن هيمنت العادات والتقاليد على القوانين و الأوامر، وسيطرت المخاوف و التمثلات الراسخة في المتخيّل الديني على سلوك الناس. كان من المفروض تحصين “جهاز المناعة النفسيّ والاجتماعيّ ” للتونسيين ببثّ المعلومة العلميّة الدقيقة وتوعيتهم بأنّنا دخلنا مرحلة جديدة انقلبت فيها المعايير والتصوّرات والمنظومة القيمية رأسا على عقب فلا وقت لدينا لتوديع أحبّائنا وإقامة طقوس الموت (الغسل والكفن …)وتنظيم المآتم والجنائز وفق ما ضبطته كتب الفقه من أوامر مندرجة وفق ثنائيات متقابلة: الحلال/الحرام، الرجل/المرأة/الخنثى، الطهر/النجاسة، وحسب نظام الفرز بين الجثث على قاعدة الإسلام/الكفر، الأبيض/الأسود…لا وقت للمفتي حتى يفصّل القول في رأي الدين ولا لأساتذة الشريعة حتى يصدروا البيانات الشرعيّة …
لا مجال للتنافس بين “العلماء و حرّاس الشريعة، لا وقت للعلاقات المبنية على القوّة والسلطة واحتكار الهيمنة على الناس، و التلاعب بوعي الجماهير الهشّة والباحثة عن الخلاص… لا وقت للتصنيف وإصدار الأحكام الفقهية كقول أحدهم إنّ أموات فيروس الكورونا هم شهداء الوباء” في جنّة الخلد يتنعمون… إنّنا أمام عملّيات تخلّص سريع من جثث لازالت حاملة للفيروز، تتم في أوقات معلومة وتحت رعاية طبيّة ويظهر فيها الأعوان بملابس بيضاء تقيهم المخاطر…يُنزلون الجثّة بأدوات خاصّة تراعي مسافات الأمان. لم يعد الميّت في حوزة أهله يعدّونه للرحيل كما يحبّون: تلاوة للذكر الحكيم، ودعاء بالرحمة والمغفرة، وأكل وشرب، وتعازي، وبكاء وعويل، و…صار من حقّ المسؤولين عن الأمن الصحّي التصرّف في أمواتنا .
زمن الكورونا يقطع مع المألوف و المعمول به و الشرعيّ …إنّه زمن يبعثر أوراقنا يكسر الرتابة، يربك و جداننا و يعصف بثوابتنا …هو زمن يحفّزنا على عقلنة السلوك و يدفعنا إلى التدبّر في علاقتنا بالحياة و الموت و المرض و العزلة و الدين و الزمن و المكان و الإنسان و سائر الكائنات و الموجودات وفق أفق تفكير مغاير و فهم مختلف.