
.الخسارة وقعت بعد أن أعاد أردوغان رسم المشهد السياسي التركي لمصلحته….
.الانتخابات التركية اسقطت صورة “الزعيم الذي لا يُقهر”
حول تطورات الوضع في تركيا وصف المحلل السياسي عز الدين البوغانمي خسارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” في مدينتي أنقرة وإسطنبول زلزالاً سياسياً بكل المقاييس . فالحزب الذي هيمن على هاتين العاصمتين لعقدين، والذي خاض أردوغان شخصياً حملتهما الانتخابية مدفوعًا بتصور راسخ أنه الحاكم المُطلق بلا منازع، تلقى صفعة انتخابية مدوية. المفارقة أن هذه الخسارة وقعت بعد أن أعاد أردوغان رسم المشهد السياسي التركي لمصلحته: همّش المعارضة، طهّر مؤسسات الدولة من خصومه، أخضع الجيش والشرطة والقضاء، وفرض تعديلات دستورية وسّعت من سلطاته التنفيذية إلى حدود شبه مطلقة.
ومع ذلك، جاءت المفاجأة حين أظهرت نتائج الانتخابات البلدية أن الحزب الحاكم لم يفقد فقط أنقرة، العاصمة السياسية، بل خسر كذلك إسطنبول، القلب الاقتصادي للدولة، والرمز السياسي الشخصي لأردوغان نفسه، حيث بدأ منها مسيرته السياسية. هذه النتيجة ليست مجرد خسارة محلية، بل تحوّل مفصلي يضرب أسس المشروع السلطوي الذي سعى أردوغان إلى ترسيخه على مدى عقدين.
لقد بدا أردوغان خلال هذه الانتخابات وحيداً، منعزلاً، حتى داخل حزبه. فالقواعد التقليدية للعدالة والتنمية لم تُجمع على التصويت لمرشحي الحزب، وساد التردد بين شرائح واسعة من أنصاره. وقد تسرّبت صور من داخل شاشات الحزب تُظهر تقدّم مرشحي المعارضة، بينما كان أردوغان ورئيس وزرائه الأسبق بن علي يلدريم -الذي خسر في إسطنبول- يزعمان فوزاً مزيفاً أمام الكاميرات.
في المقابل، أظهرت المعارضة احترافًا غير مسبوق في التنظيم والتعبئة. فقد نشر حزب الشعب الجمهوري مراقبين ليس فقط لمتابعة قوائم الناخبين بل للنوم على أكياس صناديق الاقتراع المختومة لحمايتها من التلاعب المحتمل. كان ذلك إشارة رمزية قوية تعكس وعيًا عميقًا بخطورة تزوير محتمل، وتجربة سابقة تعلّمت منها المعارضة مرارات الاستحقاقات الماضية.
لاحظ معسكر أردوغان سير النتائج، فتوقّف العد فجأة، ودار جدل داخلي -وفق بعض المراقبين- حول إمكانية التدخل، كما حدث في استحقاقات سابقة. ففي انتخابات بلدية أنقرة، وفي استفتاء 2017، وحتى في انتخابات 2018، شهدت البلاد انقطاعات غامضة في بث النتائج ثم “قفزات مفاجئة” لصالح الحزب الحاكم. بل إن محاولة حزب الشعب الجمهوري لإعادة الفرز عام 2018 انهارت فجأة بعد تعطل النظام المعلوماتي للحزب، ما دفع المرشح المعارض إلى إعلان هزيمته أمام الأمر الواقع.
لكن هذه المرّة كانت الاستعدادات مختلفة: عندما أعلن مرشح أردوغان في إسطنبول فوزه، خرج إكرام إمام أوغلو سريعًا، متحديًا، وأعلن تفوقه بالأدلة الموثقة. أدلى بعشر تصريحات خلال نفس الليلة، مثبتًا أن نتائج المعارضة تتقدم، كاسرًا بذلك الهيمنة الخطابية التقليدية للعدالة والتنمية. ويجب الإشارة إلى أن أصوات الكُرد والمحافظين المنشقين عن أردوغان لعبت دورًا حاسمًا، مما يدل على تصدّع حقيقي في القاعدة الاجتماعية للنظام.
.ضعف بنيوي في منظومة اردوغان:
لقد كشف هذا الاستحقاق البلدي ضعفًا بنيويًا في منظومة أردوغان: فعلى الرغم من مساعيه لتجريف المجال السياسي من أي منافس، ومنح نفسه سلطات فوق دستورية، وتجفيف منابع المعارضة، إلا أن النتائج أثبتت أن الشرعية الانتخابية لا تُحتكر إلى الأبد، وأن الوعي الشعبي قادر على خلخلة أقوى الأنظمة السلطوية متى توافرت الإرادة والتنظيم.
في عمق الأزمة، هنالك الدور الجوهري للعامل الاقتصادي في هذه الهزيمة. فقد دخل الاقتصاد التركي في ركود منذ مارس 2018، وارتفعت البطالة لأكثر من 10%، ثم بلغت 30% بين الشباب، وتهاوت الليرة بنحو 28%، وازداد الاستياء الشعبي من السياسات الاقتصادية القائمة على الاستدانة والعقود الريعية لصالح رجال الأعمال المحيطين بالنظام. وهكذا، مع الوقت، تحوّل الفشل الاقتصادي إلى وقود سياسي دفع الناخبين إلى الاحتجاج عبر صناديق الاقتراع.
هشاشة سلطة أردوغان:
رغم أن أردوغان لا يزال يتمتع بولاية رئاسية تمتد لأربع سنوات، إلا أن هذه الانتخابات كشفت هشاشة سلطته، وأسقطت صورة “الزعيم الذي لا يُقهر”. لم تعد صورته كما كانت في نظر الداخل التركي ولا لدى القوى الدولية، بل أضحى يُنظر إليه كزعيم فقد زمام المبادرة وبدأت سلطته تتآكل من الداخل.
أربكت هذه النتائج معسكر الحكم إلى درجة أن المجلس الأعلى للانتخابات لم يعلن النتائج بشكل رسمي حتى مساء الاثنين، واستمر حزب العدالة والتنمية في إنكار الهزيمة. لكن التقدم شبه الكامل لإمام أوغلو لم يعد يُمكن إنكاره. هذا المرشح الذي وعد بتدقيق الحسابات والملفات المالية في بلدية إسطنبول قد يفتح أبوابًا على فضائح فساد قد تُهدد النظام برمّته.
يُحسب للمعارضة أنها أدارت معركة ذكية: تطبيقات إلكترونية لتسجيل النتائج، آلاف المتطوعين، ومقارنات دقيقة بين الأرقام، مما كشف الفارق في التنظيم والانضباط بين الطرفين.
عند الساعة 9 مساءً، ظهر أردوغان مدعيًا فوزًا عامًا لحزبه، تلاه مباشرة توقف بث النتائج من وكالة الأناضول الرسمية. كان ذلك إيذانًا بانقلاب خطاب السلطة من النصر إلى الإنكار، في مؤشر صريح على قلق أردوغان من فقدان معقله السياسي. لكن الصور المسرّبة من داخل مقر العدالة والتنمية أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن مرشح المعارضة هو من يتصدر السباق.
وبينما تزداد عزلة أردوغان داخل قصره الرئاسي، لم يُخفِ بعض المراقبين احتمال أن النظام أُجبر في النهاية على القبول بالنتائج – ولو مؤقتًا – حفاظًا على ما تبقى من صورة الديمقراطية التركية. لكن، بدل أن يتّجه نحو ترميم الشرعية وتأكيد احترامه لصندوق الاقتراع، لجأ الإخواني الذي في داخل أردوغان إلى خيارٍ أكثر دلالة على طبيعة هذا التيار العنيف المٍتلوّن. حيث أمر، في خطوة صادمة، باعتقال زعيم المعارضة ورئيس بلدية إسطنبول، إكرام إمام أوغلو، ومئة شخصية قريبة منه، بتهم ملفّقة تتعلّق بغسيل الأموال والفساد. والهدف واضح: قطع الطريق على إمام أوغلو كي لا ينافسه في انتخابات 2028، وتصفية أحد أبرز رموز التحدّي الديمقراطي من الآن.
إنها لحظة حرجة في تاريخ تركيا: إمّا أن تفتح هذه الانتخابات بابًا لعودة السياسة والتوازن الديمقراطي، أو يدفع النظام نحو مزيد من السلطوية والعنف السياسي. فما حدث ليس مجرد استحقاق بلدي، بل بداية مرحلة جديدة من الصراع على طبيعة الدولة التركية: هل تبقى سلطانية مقنّعة أم تعود إلى روح الجمهورية الكمالية وديمقراطية المؤسسات؟