-
4 محطات تبين عمق فكر و اخلاق الرجل
-
هكذا استقبلت الدكتور كلوفيس مقصود بسيارتي Ami 8 .. و يومها عينه المرحوم مندوب الجامعة العربية لدى الامم المتحدة
-
كورونا تمنع تونس من مرافقة فقيدنا إلى مثواه الاخير
تونس –“الوسط نيوز” – كتب : عبد اللطيف الفراتي
مما يزيد من لوعة الحسرة و الفراق أن يـــموت رجل مثل الشاذلي القليبي و لا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير، في هذا الزمن السيء بكل المقاييس، مثلما حصل لي قبل أربعين يوما عند وفاة صهري زوج ابنتي الكبرى على صغر سنه نسبيا، فلا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير…
نفس الإحساس و نفس الظروف أن يموت قريب على صغر سنه هو هشام المراكشي و نفتقده فلا نلتقيه حتى ميتا بطعم حاد للمرارة، مصيبة كبرى، و أن يموت عملاق مثل الشاذلي القليبي، مصيبة بطعم آخر في مرارته في الحلق و لا نتمكن من تشييعه .
كان الشاذلي القليبي يملأ الساحة بعلمه و هدوئه و دماثة أخلاقه و كفاءته و تفانيه في خدمة الصالح العام بدون ضجيج و لا ادعاء.
منذ أن جاء من فرنسا حاملا للتبريز في اللغة العربية و آدابها، و هو في عمل دؤوب لفائدة بلاده و لفائدة الأمة العربية جمعاء و الانسانية كلها.
أقتربت منه كثيرا و إذ ليس غريبا أن أحمل له تقديرا بلا حدود فلن أكون مدعيا إذ أقول إنه كان يحمل هو نفس الشعور تجاهي لم يكن يفصح عن ذلك و لكني كنت أستشف ذلك منه شخصيا و مما كان ينقله لي أقرب المقربين إليه و خاصة أحمد الهرقام و محمد المغربي.
و حتى نعرف معدن الرجل بلا رتوش سأتوقف عند أربع محطات تبين عمق فكر و أخلاق الرجل:
أولها في السبعينيات من القرن الماضي و كنت صحفيا شابا و لكني كنت لسبب ما أحوز على رضا عدد من المسؤولين و كبار القوم و في نفس الوقت على استهجان بعضهم و في كثير من الأحيان رضا و استهجان نفس المسؤولين في أحد الأيام و لم أكن أحمل أية مسؤولية لا في صحيفة الصباح و لا في المجتمع المدني و خاصة جمعية الصحفيين التي توليت فيها مسؤوليات عديدة قبل أن أصبح رئيسا لها، دعتني كاتبة السيد الشاذلي القليبي إلى مكتبه ،وكان بيننا في جريدة الصباح والوزارة مائة متر ، بين نهج علي باش حانبة و نهج الجزائر دخلت مباشرة إلى مكتبه حيث وجدته مضطربا فكان قد صدر أمر باحتجاز جريدة تونس هبدو، استدعاني ولم أكن أحمل صفة رسمية ليقول لي : لست مسؤولا عن إيقاف الجردة و أنت أول من تعرف أنني ضد النيل من حرية التعبير و سأسعى جاهدا للرجوع في هذا القرار فهمت الرسالة و بلغتها على أنها معلومة من عندي و خف جو احتقان ساد يومها و كان له الفضل في رفع القرار.
و ثانيها و هو حديث عهد بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية في أواخر السبعينات عندما دعاني إلى مكتبه كان أمامه مقال للدكتور كلوفيس مقصود و هو كاتب و سياسي لبناني مرموق كان كتب مقالا رائعا في صحيفة النهار العربي و الدولي التي كنت مراسلا لها في تونس، طلب مني الشاذلي القليبي أن أسعى بصفة غير رسمية للاتصال برئيس التحرير أيامها عبد الكريم أبو النصر و أنظم معه استقدام الدكتور مقصود إلى تونس من مقره في بيروت لمقابلة في إطار التكتم مع أمين عام الجامعة العربية ، و فعلا تم ترتيب الأمور ، ووصل الدكتور كلوفيس مقصود إلى تونس في طي الكتمان ، وانتظرته بسيارتي أمي 8 الزرقاء الصغير ، في المطار و رافقته إلى مقر الجامعة العربية في شارع خير الدين باشا، أوصلته إلى الطابق السادس و انسحبت إلى مكتب أحد الأصدقاء الكثيرين بمقر الجامعة دون أن أنسى تنبيه السكريتيرية الخاصة بالأمين العام إلى حيث أنا متواجد، دامت المقابلة ساعة و نصف، ثم تمت دعوتي لاصطحاب الدكتور كلوفيس مقصود إلى فندق أفريكا، حيث كنت حجزت له ” سويت”، صاحبت الدكتور للفندق ، و لم يحدثني بشيء ، قدرت تحفظه ، أوصلته حتى الاستقبال و اطمأننت إلى أنه تسلم مفاتيح غرفته، عشية نفس اليوم صدر عن مكتب الأمين العام قرار بتعيين الدكتور كلوفيس مقصود سفيرا مندوبا للجامعة العربية في الامم المتحدة و كان أفضل سفير للعرب في المنتظم الأممي على مدى 10 سنوات بصوته الصادح و تحاليله المقنعة و قدراته الخارقة على التواصل و لن أطيال في الحديث عن فراسة الشاذلي القليبي في اختيار المساعدين المقتدرين ، في الإدارة التونسية و لكن سأتوقف عند من كان له فضل اختيارهم و هو أمين عام للحامعة الغربية و منهم حمادي الصيد كسفير للجامعة في باريس حيث أمكن له بعلاقاته الواسعة و فصاحته و سيطرته على أعقد الملفات أن يعطي للقضية العربية بعدا لم تكن له سابقة و ثالثة الأثافي عندما عين أحمد الهرقام سفيرا للجامعة العربية لدي ديوان الأمم المتحدة في جنيف ، حيث يتم التحضير لأهم القرارات التي تهم الصراع العربي الاسرائيلي، رافق ذلك إدارة إعلامية نشيطة في المقر بتونس بمحمد المغربي و عبد الله عمامي و اللبناني وليد شميط ، و قد تفطن الشاذلي القليبي و هو رجل الثقافة و الإعلام ، إلى الدور البارز لكليهما في تشكيل رأي عام مساند للقضايا العربية.
و ثالث موقف شهادة هو أني و كنت في 1979 حديث عهد بالمسؤولية في جمعية الصحفيين عندما دعاني يوما و سألني عن مقر الجمعية ، و كان يراها ” بالعين الكبيرة ” كما يقول مثلنا الوطني و هو الذي تم استدعاؤه لمقرات نقابات و جمعيات الصحفيين للمحاضرة في نيويورك و باريس و القاهرة و رجاني أن أتدبر مقرا لائقا للجمعية على أن تتولى وزارة الثقافة و الاعلام تمويل تكاليف الكراء و التأثيث و قبل يوم من مغادرته للوزارة ليتولى الأمانة العامة للجامعة العربية سلمني شخصيا و باسم الجمعية ، صكا بمبلغ الكراء و التأثيث بعد أن كنت قد قدمت فاتورة ، في تلك التكاليف و كانت تلك أول مرة تنتصب فيها الجمعية في مقر لائق في نهج النمسا في قلب العاصمة.
و لن أطيل أكثر و لكني سأذكر أن الشاذلي القليبي كان هو محرر و كاتب الخطب الرسمية للرئيس بورقيبة و كان تأثيره كبيرا فيها، و لعل أبرزها ذلك الخطاب ، الذي أعلن فيه بورقيبة ،عن أنه لا ” يرى مانعا في قيام أحزاب غير الحزب الحاكم ، و هو نص تاريخي باعتبار ظروف ذلك الزمن في 1980/1981 ، تم تصوره في الصيغة المقبولة من الرئيس بورقيبة ، بالتعاون بين الشاذلي القليبي و محمد مزالي الوزير الأول آنذاك.
و خلاصة القول ، أن الشاذلي القليبي لم يكن أقل من مؤسسة قائمة الذات بشخصه و هدوئه و سلامة سريرته و وطنيته و نجاعته.