“كان يوم الجمعة 19 جوان 2019 يوما فريدا من نوعه في تونس و يمكننا حتى أن نصفه باليوم التاريخي. فقد شهد حدثان مهمان، فوز الجزائر بكأس إفريقيا للأمم في كرة القدم بعد مباراة صعبة و حماسية، كما أنه شهد سقوط تعديلات وصفت بأنها غير دستورية على القانون الانتخابي بطريقة غير متوقعة.
فقد أدخل التحالف الحاكم المكون من حركة النهضة و الكتلة النيابية التابعة لرئيس الحكومة الشاهد في البرلمان و ذلك أسابيع قليلة قبل انطلاق قبول الترشحات للانتخابات التشريعية التي من المتوقع أن تحافظ على موعدها المحدد لأوائل أكتوبر القادم، تعديلات مثيرة للجدل بدعوى “أخلقة” الحياة السياسية و التصدي لمن يستغلون العمل الخيري في خداع المواطنين انتخابيا.
سقطت التعديلات التي لم تخف على المواطنين و المتابعين غاياتها الحقيقية، بعد أن كان مهندسوها يتوهمون أنها كانت قد فتحت لهم الطريق واسعا للفوز بالانتخابات المقبلة. و خاصة تفادي الخسارة المحققة التي تنبأ بها مؤشرات مهمة من أهمها حصيلتهم في الحكم و فشلهم في تحقيق أي تقدم اقتصادي و الغضب الشعبي المتنامي ممن يمسكون السلطة.
قام رئيس الجمهورية المختفي عن الأنظار تماما بعد ظهوره اليتيم إثر وعكة “الخميس الأسود” و بحركة غير إعتيادية بإسقاط تلك التعديلات و قطع الطريق الذي كان معبدا أمام دخولها حيز النفاذ.
رفض الرئيس ردّ مشروع القانون المصادق عليه من قبل المجلس النيابي كما رفض ختمه في الآجال الدستورية مستغلا ثغرة عميقة سكنت بين جنبات أفضل دستور في العالم وكذلك غياب المحكمة الدستورية.
منع ذلك كل إمكانية لنشر المشروع بالرائد الرسمي و أفشله رسميا ليبقى حبيس الأدراج وعلى ذمة الرئيس المقبل ليفعل معه ما يشاء.
و مع غياب أية مخاطر لعزله بطريقة دستورية لارتكابه الخطأ الجسيم أو بسبب خرقه الدستور كما يدعي مناوؤوه و هو أمر لا يمكن على كل حال لأي جهة اثباته باستثناء المحكمة الدستورية، أظهر الرئيس نفسه بمظهر المناور البارع و ضرب منافسيه السياسيين في مقتل.
منافسون لم يلازموا الصمت طويلا، إذ طالبت حركة النهضة عبر بيان لمكتبها التنفيذي يوم السبت 20 جويلية 2019 الكتل البرلمانية والأحزاب إلى المسارعة بالاجتماع و التشاور من اجل معالجة تداعيات تلك الوضعية و إقتراح الترتيبات المناسبة للخروج منها.
و هو موقف متشنج ويتضمن تهديدات مبطنة لرئيس الجمهورية و يهدف في الواقع إلى البحث عن سبل إيجاد رئيس بديل يختم التعديلات عوضا عن قائد السبسي.
رئيس مثالي يطبق ما يطلب منه حرفيا و بدون نقاش تعودت على مثله الحركة في مواقع أخرى، فيختمها و يأذن بنشرها في الرائد الرسمي لتطبق على الأقل عند إعلان النتائج في التشريعية و في كامل مراحل الانتخابات الرئاسية، ليتسنى تحقيق حلم تبخر فجأة بإستبعاد جميع المنافسين الخطرين عن طريق الملفات التي قد تكون جمعتها و بالاستعانة بمصالح رئاسة الحكومة.
قلب قائد السبسي الطاولة على الجميع سياسيا و فرض شروطا أخرى مختلفة لإدارة الصراع المحتدم على السلطة منذ زمن.
و بعد أن دفنه البعض مبكرا و أعلن عن نهايته السياسية، فإنه يراقب باهتمام حاليا ردود الأفعال المتشنجة الصادرة عن بعض نواب كتلة حزب الحكومة وبعض وسائل الاعلام الموالية لها و هم يطالبون بالكشف عن حقيقة وضعه الصحي ليس خوفا عليه بل لاستغلالها في استئناف مخططاتهم المعدة منذ زمن ليس بالقصير.
فقد أضحى بعضهم يلمّح إلى اختطاف إرادته و السطو على صلاحياته و آخرون يصرحون علنا بوجوده في حالة عجز عن ممارسة مهامه رغبة منهم في العودة إلى مناقشة حالة الشغور التي حاولوا تثبيتها يوم الخميس الأسود و أُفشلوا.
نسي هؤلاء و أولائك بأن رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا لم يكن ليتخذ قرارا بحجم القرار الذي اتخذه بدون التشاور مع الأجهزة السيادية بالبلاد.
و هي أجهزة وإن كانت صامتة تماما،فإنها تراقب الوضع عن كثب بعد وقوفها بصفة مباشرة على حقيقة حالة الرئيس الصحية في المستشفى العسكري حيث كان يقيم. و هي على إطلاع تام على وضعه الصحي الحالي ولن تسمح منطقيا بالاستيلاء على منصب ثمنه أكثر من مليون و سبعمائة ألف صوت من أصوات المواطنين التونسيين.
لن تتوقف المعركة عند هذا الحد و الخشية الحقيقية تتمثل في عمل التحالف الحاكم كل ما في وسعه لتجاوز ختم المشروع و فرض تأجيل الانتخابات خشية خسارتها أو التحضير لعدم اعترافه بنتائجها، إن كانت في غير صالحه متى فرض عليها إتمامها في موعدها.
لا يتعلق الأمر اليوم في الواقع بمعركة حول الديمقراطية بين أخيار و أشرار كما يتوهم بعض الأصدقاء، فقد تهافتت جميع أساطير محاربة الابن الضال و مقاومة الفساد و تحقيق ما لم يتحقق في السنوات الأخيرة بمجرد الفوز بالانتخابات المقبلة و تبين للجميع أن الأمر إنما يتعلق بالفوز بكراسي الحكم و لا شيء غير ذلك.
إننا في المراحل النهائية من معركة كسر العظم التي تحدثنا عنا سابقا و هي المعركة المتواصلة منذ أشهر بعد تمرد رئيس الحكومة على رئيس الجمهورية و ارتمائه في حضن الحركة و فك الأخير ارتباطه إثر ذلك بحزب حركة النهضة نهائيا.
ينسى كثيرون أن الباجي قائد السبسي تحمل مسؤولياته في ظرف تاريخي حساس و أنقذ تونس من تغول الحركة الإخوانية في مرحلة مهمة من تاريخها بعد أن فرض توازنا جديدا بعد أن كان مختلا لصالحها.
نسي الكثيرون من تسبب في الوضع الأمني المتردي و في تفشي الارهاب و في اضعاف الدولة و افلاس خزائنها من جراء التعويضات و اثفال كاهل الإدارة بالتعيينات و من جعل تونس محطة انطلاق لغزو بلدان أخرى بآلاف من الإرهابيين و لكنهم يتذكرون فقط أنه أهلك حزبه بتولية ابنه عليه.
و الواقع أن عليهم تذكر كل شيء ابنه و أخطاؤه كرئيس و كذلك ما يتجاوزهما و يفوقهما تأثيرا و وطأة على مستقبل تونس.
إذ أن الباجي قايد السبسي و مهما انتقده البعض و انتقدناه لا يعدو أن يكون و سيبقى حليفا موضوعيا مهمّا في معركة مصيرية لا يجوز التجادل حولها بدون اقتراح حلول عملية. خاصة أن هذه المعركة لن تنتهي مع إعلان نتائج الانتخابات المقبلة بل ستتواصل بوسائل و أساليب و شخوص أخرى،لأنها تمثل بديهيا معركة بين مشروعين متناقضين و لا يمكن أن يلتقيا مرة أخرى و لو مصادفة.
تدخل تونس نهاية مرحلة مهمة من تاريخها و هي في أسوأ حالاتها نتيجة فشل من انتخبهم الشعب بمن فيهم رئيس الجمهورية في تحقيق ما وعدوا به المواطنين في حملاتهم الانتخابية. و تدخلها و هي تحبس أنفاسها و تراقب مجريات صراع كبير يجري في الأروقة الخلفية للسلطة هدفه التحكم في ترتيبات المرحلة القادمة.
و يبدو أن التحالف الحاكم سيحاول بكل السبل الممكنة استرجاع المبادرة في الأيام المقبلة و فرض تصوره للمرحلة و يجب منعه من الضغط على هيئة الانتخابات و من استعمال جميع أجهزة الدولة بدون استثناء لتحقيق ما لم يُسمح له بتحقيقه عن طريق تلك التعديلات.
و من واجب رئيس الجمهورية في هذه الظرف الصعب أن يظهر للشعب التونسي ليطمئنه على صحته و قدرته على النهوض بأعباء مهمته و من بينها الوقوف في وجه كل المخططات الرامية إلى التحكم في نتائج الانتخابات المقبلة. و كذلك لوضع حد للإشاعات التي تطاله و لتبيان خطورة ما يدبر لتونس و ضرر تلك التعديلات المسقطة على المسار الانتخابي و الأسباب الأساسية التي دعته إلى رفض ختمها.”