صبحي حديدي
اعتبر محمد مختار الخطيب، الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، أنّ أطراف المعارضة التي تخرج اليوم من الحكومة لا مكان لها في قلب المعارضة المساندة للاحتجاجات الشعبية؛ و رغم أنّ الشعب “ربما يحفظ لهم صحوة ضميرهم”، إلا أنّ المطلوب هو “أن يلعبوا دوراً فعلياً في الاحتجاجات، و لا بدّ أن نراهم في الشارع مع المحتجين”.
طاغية السودان نفسه، عمر حسن البشير، يبدو غير مستعدّ بدوره لمنح الخارجين فضيلة التحاقهم بصفوف نظامه، و بعضهم انشقّ عن حزبه في هذا السبيل؛ فيسخر منهم (و يخصّ اثنين من حلفائه السابقين، غازي صلاح الدين من “حركة الإصلاح”، و مبارك الفاضل من حزب “الأمة”) هكذا : “إنهم درجوا على القفز من المركب كل مرّة، بحسبان إنها أوشكت على الغرق”.
غير أنّ الجدير بالمراقبة، في المقام الأوّل، هو أفق التحولات التي شهدها و سوف يشهدها حزب “المؤتمر الشعبي”، الذي أنشأه الشيخ حسن الترابي (1932 ــ 2016) ؛ إنْ على صعيد العلاقة مع نظام البشير، أو في مستوى الحركات الإسلامية السودانية، و إزاء تطور شعارات الانتفاضة الشعبية ذات الصفة الطبقية والسياسية بصفة خاصة. يقرأ المرء تصريحاً لأحد قادة الحزب، الأمين عبد الرازق، ينصح فيه البشير بـ”مكافحة القطط السمان بدءاً من نفسه ثمّ أهل بيته”؛ مطالباً إياه بالاقتداء بالخليفة عمر بن عبد العزيز عندما بدأ مكافحة الفساد بنفسه فخلع ملابسه الثمينة، ثم أكمل فخلع من زوجته الذهب الذي جاءها هدية من والدها ! أو يقرأ المرء خلاصة من قيادي ثان، إبراهيم الكناني، تعلن أنّ “تجربة الإسلاميين في الحكم كانت فاشلة و يا ليتها لم تكن”؛ متهماً شخصيات نافذة داخل حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم بوضع “متاريس أمام إنفاذ مخرجات الحوار الوطني”. و أمّا إدريس سليمان، الأمين السياسي للحزب، فقد رفض استخدام القوّة و العنف ضدّ المحتجين (!)، و طالب الحكومة بالتحقيق في حوادث القتل (!!) و حثّ السلطات على محاسبة المسؤولين (!!!).
علامات التعجب آتية من حقيقة أولى راهنة تشير إلى أنّ الحزب مشارك في الحكومة، و تولى أعضاؤه حقائب وزارية عديدة، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس الجمهورية؛ و من حقيقة ثانية، بعيدة الغور في الواقع، تخصّ العلاقة الأمّ بين الترابي و انقلاب البشير في العام 1989. فالشيخ لم يكن حليف، و مهندس الكثير من، سياسات البشير فقط، رغم خلافات لاحقة بينهما بلغت درجة اعتقال الأوّل؛ بل كان المنظّر الأوّل خلف واحدة من كبرى ذرائع الانقلاب، أي مفهوم “الحكم الإسلامي”. و بسبب من هذا، قيل ذات يوم إنّ الدول العربية تنزلق، مرغمة، في حمأة “الأصولية”؛ أما السودان فإنه الدولة الوحيدة التي اختارت ــ طواعية ــ أن يكون الإسلام هو نظام الحكم فيها !
“ما الذي يمكن أن يعنيه الحكم الإسلامي ؟” سأل الترابي في واحدة من تنظيراته، و أجاب : “النموذج بالغ الوضوح، أما أفق الحكم فهو محدود، و القانون ليس توكيلاً للرقابة الاجتماعية لأنّ المعايير الأخلاقية و الضمير الفردي شديدة الأهمية، و هي مستقلة بذاتها. لن نلجأ إلى ضبط المواقف الفكرية من الإسلام، أو قنونتها، و نحن نثمّن و نضمن حرية البشر و الحرية الدينية ليس لغير المسلمين فحسب، بل للمسلمين أنفسهم حين يحملون قناعات مختلفة. إنني شخصياً أعتنق آراءً تسير على النقيض تماماً من المدارس السلفية في التشريع حول مسائل مثل وضع المرأة، و شهادة غير المسلم في المحاكم، و حكم الكافر”.
لكن نبرة الانفتاح و التسامح في فكر الشيخ كانت تعاني من قصور التطبيق الميداني و المواقف العملية، أوّلاً؛ و كانت، ثانياً، قد وُضعت في خدمة نظام استبداد و فساد، هيهات أن ينفع معه اليوم مطلب البدء من بيت الطاغية في تطهير السلطة، أو الاقتداء بالخليفة عمر بن عبد العزيز. “الشعب يريد إسقاط النظام”، يقول الحراك الشعبي الذي انطلق من عطبرة، البلدة العمالية بامتياز، و هيهات أن يتجمل ذلك النظام بأيّ قناع، قديم أو جديد.