أكدت الدكتورة زينب التوجاني أن اقناع حركة النهضة للتونسيين بتحولها لحزب مدني يمر وجوبا بتصويتها لقانون المساواة في الإرث و الحريات الفردية لتقطع بذلك مع المنظومة الاخوانية.
تونس – “الوسط نيوز” – أجرى الحوار : قيس بن سليمان
الدكتورة زينب التوجاني أستاذة في المعهد العالي للإنسانيات بقفصة و متخصصة في الحضارة العربية و تحديدا في قراءات القرآن لم تنقطع عن المشاركة في الشأن العام في كل ما يتعلق بالحريات و قراءات النص الديني و الجدل مع الجماعات الاسلامية حول قضايا فقهية.
في هذا الحوار تتحدث عن المدارس المسماة بالقرآنية و شروط تحول حركة النهضة الى حزب مدني.
كيف تفاعلت مع اكتشاف المدرسة القرآنية في الرقاب ؟
إن خطورة الجمعيات المسماة قرآنية لم تكن خافية على كل متابع لتطور الخطاب الديني السياسي في البلاد التونسية بعد الثورة، و قد بحثت الحركات الإسلاموية عن حواضن جديدة لها فتوجهت إلى صيغة جمعياتية بعد أن أمست الجمعيات بمقتضى القوانين الجديدة بعد الثورة يسيرة.
و لاحظنا انتشار هذه الجمعيات في البلاد انتشار النار في الهشيم فحيثما ولينا رأينا مواطنين يجمعون التبرعات و يقيمون إما مساجد و إما جمعيات قرآنية. و لذلك فإن اكتشاف حادثة الرقاب كانت متوقعة بل تقبلنا اطلاع الراي العام على ما يجري في هذه الجمعيات باستبشار آملين أن تكون هذه الفرصة المناسبة لغلق كل الجمعيات المشبوهة و الاعتناء بملف الطفولة المهمشة و فتح قضايا التعليم المقنع باسم الدين و الذي يهدف فيما يهدف إلى تكوين أجيال دولة الخلافة المزعومة.
إنّ حادثة الرقاب تخفي وراءها مئات الأطفال الذين اختار لهم حظهم أن يولدوا في عائلة تحمل فكرا سلفيا بمعنى تؤمن بوجوب السعي لاقامة الخلافة الإسلامية وفق نموذج متوهم لا أثر له ابدا في التاريخ و إنما تحمله فقط آمال المسلم البسيط الجاهل بحقيقة التاريخ المكتفي بترديد مقولات مدرسة المحدثين القائمة على اقصاء تعدد الحقائق و بناء حقيقة تاريخية مطلقة لا تقوم على وقائع و إنما على تمثل لا تاريخي و لا معقول للهوية و للزمن و للوجود.
و لذلك فإن هؤلاء لا يجدون مانعا من إخراج أبنائهم من الزمن الواقعي الذي هم فيه و حرمانهم من أن يكونوا كأترابهم في شكل لباسهم و شكل أفكارهم و طبيعة مشاعرهم و إدخالهم في زمن مفارق متخيل عجيب يكونون فيه على اتصال دائم بمخلوقات لا تُرى لكنهم يتكلمون إليها كأنها تكلمهم كالشيطان و الملائكة و الجن و تمسي مشاعرهم تجاه الوطن الذي يحتضنهم غريبة و عدائية لأنهم خارج الزمن و المكان يعيشون داخل قصة وهمية لا فرق فيها بين الآن و غدا في القبر أو الجنة أو الجحيم، و لأن أبطال حياتهم من الجن و الملائكة و القوى الغيبية كالإيمان و الرسل و الأنبياء و الصحابة و الأيمة الشهداء في نظرهم فيعيشون مع الأموات الراحلين في كهوف الوهم كأحياء-أموات.
و لذا فإن حادثة الرقاب لم تفاجئنا بل أسعدنا في البداية أنّها كشفت لعموم الناس شيئا من مخاطر التعليم المسمىّ دينيا، و هي مخاطر على الأطفال و على مستقبل البلاد بما أن هؤلاء الأبرياء يتمّ تحويلهم إلى ذئاب منفردة و قنابل متفجّرة و أحزمة ناسفة.
و الآن و قد أعاد القضاء هؤلاء الأطفال إلى نفس الحضن الذي تترعرع فيه الأفكار المعادية للمواطنة, فإنا نأسف لعدم وجود آليات لحماية أطفالنا من هذه المخاطر المحدقة بهم و بنا و لعدم قدرة الدولة على انتشال أبنائها من محاضن التدريب على الكراهية و عداء التعايش و نحن نأمل أن يتجند كل المجتمع بما فيه من قوى حية لتفعيل ما يمكن من آليات لحماية الطفولة و انتشال العقول من التخريب. و على كل طرف أن يتحمل مسؤوليته و يقوم بدوره المعهود إليه في سبيل تقليص الاضرار الممكنة.
هذه المدارس القرآنية ألا تذكّرك بحركة طالبان في أفغانستان ؟
في البلاد التونسية مدارس قرآنيّة تابعة لوزارة الشؤون الدينية ضبطت برامجها و ألحق موظفوها بالدولة و أعوانها منذ الاستقلال، و لذلك فإن هذه المجمعات التي تنشط تحت غطاء قانون الجمعيات ليست تابعة لما يسمى المدارس القرآنية التي تشرف عليها الدولة و إنما تفلت من رقابتها و تستغل ذلك لدعم نوع مخصوص من التعليم لا يمكن أن يكون له نموذج آخر إلا التعليم الطالباني.
و نلاحظ ذلك أولا من فصل الإناث عن الذكور و من انقطاع عدد كبير من التلاميذ من التعليم العمومي و التحاقهم بهذه الجمعيات، و قد بدأت هذه الظاهرة منذ الثورة بانقطاع عدد كبير من الفتيات اللواتي تحجبن و تنقبن و ارتدين اللباس المسمى شرعيا و التحقن بالجمعيات الناشئة للتكوين في علوم الدين كما يقلن.
و لاحظت ذلك حين كنت أدرس بمعهد باردو بُعيد الثورة. و تابعت تحول التلميذات العاديات إلى سلفيات بفعل الدعوة التي انتشرت و لاحظنا كيف غرُّر بكثير منهن للسفر إلى الجهاد في الحروب التي عرفتها المنطقة منذ ثماني سنوات. فهذه الجمعيات المشبوهة ليست سوى مصائد لوقود الحروب الحاليّة و المقبلة، تتلاعب بها أياد خفية تحرك مشاعر الناس البسطاء و تتلاعب بعواطفهم الدينية و نقاط ضعفهم و تستغل جهلهم و عدم قدرتهم على مواكبة العصر و تحدياته لتوظف كل ذلك في خدمة مشروع الخلافة الموهوم في الظاهر و السيطرة على المقدرات و الثروات و العقول في الباطن. فنحن أمام لعبة هيمنة تتخفى فيها اشكال متعددة للسلطة : السلطة الدينية و السلطة الاقتصادية و قوى النفوذ التي تتلاعب بهذه السلطة لتتحكم بمشاعر الناس البسيطة و آمالهم. و قد بدأت حركة طالبان عفوية ثم سرعان ما تمّ تأطيرها و توظيفها لخدمة أجندات و حروب مات فيها الأطفال و الشباب المجندون لهذا الغرض بالذات وقودا لحروب يقودها الجهل المقدس و القتال من أجل أوهام الخلافة المزعومة و تطهير الأمة من الفساد و البحث عن الخلاص باستئصال كل مظاهر الكفر و الفسوق حسب هذا الخطاب المعادي للحياة و الفن و التسامح و الاختلاف.
كيف تفاعلت مع مواقف القيادي لطفي زيتون الأخيرة ؟
عبر لطفي زيتون بعيد الإعلان عن مبادرة المساواة في احتفالات عيد المرأة أوت 2018 عن موقف إيجابي من المبادرة الرئاسية، و عبر في حواره مع الشارع المغاربي 12 فيفري المنقضي عن مواقف متطورة و ناقدة و نتفاعل إيجابيا مع هذا الخطاب المعلن و نشجعه و نأمل أن يعمل زيتون و قادة النهضة لا على تحديث خطابهم بل معالجة مظاهر الصحوة المتجددة للسيطرة على التنظيمات المتشددة الموظفة للخطاب الديني و للمشاعر الدينية و التي تغذي الإرهاب و الكراهية. و ننتظر أن تترجم هذه المواقف إلى برامج لتغيير القواعد و نشر قيم جديدة و تطويق الأخونة و الأسلمة في العمق عبر البنية التحتية للحركة الإسلامية التي تمتد داخل نسيج المجتمع لتمثل دولة داخل الدولة و نسيجا خاصا له معاييره الخاصة.
و على كل حال فإن توجه لطفي زيتون لم يأت طوعا بشكل تلقائي نتيجة تطور الحركة الطبيعي و عبر مراجعات من داخلها ضمن نسق تقييم ذاتي بل هو تتويج لضغوط هائلة مارستها القوى الحية الدولية و الوطنية على حركة النهضة خصيصا و على الإسلام السياسي المشارك في الحكم في البلدان المستقرة نسبيا بشكل عام و تمثل تونس بالذات مخبر تجارب لنجاح الإسلام السياسي او فشله و لذلك فليس موقف زيتون غريبا لأنه يمثل استجابة لهذا الضغط و الإكراه و لأنه رد فعل براغماتي يستجيب لحتمية تطوير الحركة لنفسها بنفسها و إن تحت الإكراه لأنه لا مستقبل لها على اية حال إلا عبر القطع نهائيا مع ماضيها الوهابي بشكل حقيقي لا مفتعل و عدم التفكير في الغدر بالمجتمع و العودة إلى مربع العنف و الحكم الديني و الكف عن محاولات التغلغل و أسلمة الإدارة و المؤسسات و نشر قيم الوهابية العقيمة.
و لذلك فعلى القوى الحداثية ترك الباب مفتوحا أمام إمكانيات تطوير الإسلاميين لخطابهم و حركتهم و معاييرهم و قبول التدرج نحو تمدين الحركة و في نفس الوقت تكون مراقبة هذا التدرج على قدم و ساق فنحن ندرك حجم الضغوط المسلطة على النهضة و نعلم أنه ليس أمامها أي خيار ثان سوى الدخول في التاريخ فإما ذاك و إما الاندثار و إن بعد حين.
و مهمتنا أن نشجع كل تطور و نراقب كل انحراف حتى نصل بالبلاد إلى بر الأمان.
هل تعتقدين ان حركة النهضة قادرة على أن تتحوٌل الى حزب مدني ؟
حركة النهضة تحولت فعليا إلى حزب مدني بعد قبولها اللعبة الديمقراطية و مشاركتها في الحكم و انكشاف ازدواجية خطابها و براغماتيتها لأتباعها و لخصومها بما يعني أنها حركة سياسية غايتها المصالح الدنيوية لا النجاة الأخروية كما تدعي الحركات الدينية.
و هي لذلك تعرضت إلى تكفير داعش مثلا في أكثر من بيان بعيد سقوط الدولة الإسلامية في سوريا، بل لقد اُعتبر الغنوشي سببا لفشل الدولة الإسلامية لقبوله اللعبة الديمقراطية و كُفر هو و حركته خارج تونس و داخل تونس من الذئاب المنفردة و التنظيمات الخفية الأكثر راديكالية. فحركة النهضة خسرت نهائيا جانبا من الإسلاميين ليسوا قابلين بالتنازلات التي قدمتها و لو كانت شكلية و كاذبة و من باب التقية.
و من جهة ثانية خضعت حركة النهضة لضغوط الحداثيين و القوى العالمية و خاصة أصدقاء الحركة الامريكان الذين يحاولون مساعدتها على التحول من إخوانيتها إلى مدنيتها فسعت إلى تقديم البراهين الدالة على هذا التحول عبر اتخاذ قادتها أشكالا عصرية في اللباس و عبر تصدر النساء غير المحجبات رؤوس القوائم الانتخابية و المراهنة عليهن في جلب المزيد من تعاطف الشعب و أصواته الانتخابية.
و حركة النهضة لها هدف واضح هو البقاء في الحكم و المشاركة في السلطة و من أجل ذلك قدم الغنوشي تنازلات عديدة ليحافظ على توازن حزبه و قدرته على المنافسة بعد أحداث العنف التي أودت بالشهيد شكري بالعيد و البراهمي و أحداث باردو الإرهابية و كل العمليات التي سالت فيها دماء التونسيين و الأجانب و التي وجه فيها الشعب أصابع الاتهام لراعي الإسلام السياسي و النبع الأول للفكر الإخواني و الوهابي في تونس أي إلى حركة النهضة. و استطاعت هذه الحركة أن تصمد أمام كل تلك الاتهامات و الجرائم البشعة التي تمت على أرض تونس باسم الإسلام و أن تنحني لعاصفة الاحتجاج و أن تحافظ على خزانها الانتخابي.
و يمكنني شخصيا أن أجزم بأن حركة النهضة أمست حزبا مدنيا بشرط وحيد موافقتها المطلقة على قانون المساواة في المواريث أولا و موافقتها على مجلة الحريات الفردية ثانيا. عندئذ سنهنئ أنفسنا و العالم بقطع حركة النهضة تماما مع أصولها الإخوانية الوهابية المعادية للحرية و المساواة و الاختلاف و أما و قد اجتمع مجلس الشورى في اوت الماضي بعد خطاب الرئيس بمناسبة عيد المرأة و أعلن أنه ضد المساواة لانها تخالف الشريعة الإسلامية و انه لن يصوت لصالح المبادرة الرئاسية فإنه بذلك أثبت انه لن يقدر على استبدال المفاهيم التمييزية بتأسيس جديد مداره الكرامة البشرية و الحياة المشتركة بديلا عن الصراع بين الكفار و الناجين.
و للإجابة على هذا السؤال ننتظر بفارغ الصبر التصويت المقبل لنحسم مستقبل هذه الحركة نهائيا و نتبين الفرق بين ما تظهره أقوالها و أفعالها و ما تضمره لمستقبل البلاد و المواطنين. فالتمدن لا يكون باستبدال القميص بربطة العنق و لابسة الخمار بامراة تحمل حجابها مرشوما بين جبينها على حد عبارة المرنيسي و إنما التمدن مساواة في المواطنة و ايمان بالحرية أولا و أخيرا.
فها نحن ننتظر التصويت لنرى صدق التمدّن و مداه.