أثارت مرافقة عدد كبير من التونسيات لنعش المرحومة لينا بن مهني الكثير من الجدل و في هذا السياق كتبت الدكتورة زينب التوجاني أستاذة الحضارة في جامعة منوبة مقالا توضيحيا ل“الوسط نيوز” تكشف فيه الخلفية الفقهية و النفسية لهذا “التحريم” شنّع الكثيرون على صديقات لينا تشييعها إلى المثوى الأخير، و اعتبروا صنيعهنّ مروقا عن الدين و السنة و سبب ذلك التشنيع كامن في الجهل بفقه الاختلاف و بحقائق التّاريخ.
فالناظر في القرآن الكريم نفسه لن يجد تحريما و لا إباحة و لن يجد فيما يتعلق بالقبور سوى قصة الغرابين إذ يدفن أحدهما أخاه ليعلّم قابيل كيف يدفن أخاه. فكلّ ما يتعلق بطقوس استقبال الموت وتغسيل الميت وتشييعه والصّلاة عليه ودفنه وزيارته، كل ذلك لم ينزل فيه وحي ولا ترك فيه النبيّ أقوالا بمثابة القوانين الثابتة، بل إن متتبع السيرة النبويّة والأحاديث واجد فيها اختلافا بين الصحابة في لحظة استقبال موت النبي الكريم نفسه، فلم يتفق صحابته في الكفن الذي به يسترونه و افترقت الروايات في تفاصيل موته و دفنه.
فكيف يمكن إذن اعتبار طقوس الموت و الجنازات ثابتة و الحال أّنّها ليست سوى ما دأبت عليه العادة و جرت عليه التقاليد، و قد ذكر الفقهاء أن سبب كراهة أن تتبع النساء الجنازات نواحُهن و صياحُهن وأجاز بعضهم للنساء الصلاة على الميت و اتباعه ونقل أن عائشة زوجة النبي صلت على سعد ابن أبي الوقاص، وأجاز بعض الفقهاء للنّساء أن يتبعن الجنازات إذا لم يطلقن عقيرتهن بالصراخ، وأما حمل النعش فإنهم أكدوا أن سبب اختصاص الرجال به هو ثقل النعش على النساء لا غير. فلا شيء يمنع النساء في الإسلام من أن تمشي في الجنازات وتحمل النعوش، وتقف عند الدفن.
و لكن العادة جرت بخلاف ذلك رفقا بمشاعرهنّ وتخفيفا عنهن أعباء اللحظة العصيبة وتحميلا للمسؤولية للرجال في مواجهة القبر. فتلك ثقافة وزعت أدوارا على الرجال والنساء وقد تبدلت اليوم الأدوار نحو توزيع جديد قائم على نوع من المساواة. و لو تأملنا سبب هذا التشنيع لوجدناه نابعا من ثقافة دخيلة تحاول التغلغل للتونسيين منذ قرن على الأقل عندما وصلت رسالة من محمد عبد الوهاب إلى تونس تشير إلى عادات مكروهة في زيارة النساء والاختلاط في المقابر و غير ذلك من عادات الأضرحة و المقامات في بلادنا فرد على تلك الرسالة علماء تونس ردا مفحما مبكتا.
و لكن تلك الأفكار التكفيرية تتسلل إلينا عبر الدعوة إلى إسلام شكلي طقسي جامد خال من التعبير عن مشاعر التونسيين الحديثة، فهؤلاء النسوة صديقات لينا، كان مصابهن عظيما في فقدان صديقتهن، وهن رافقنها إلى المثوى الأخير مرافقة من عظم مصابه ولم يتخطين في ذلك جلالة الموت و عظمته و لا تحدين غيبا ولا كفرن بآلهة، بل حملن صديقتهن إلى التراب الذي منه خلقت في القصة القرآنية ووارينها التراب كما علّم الله قابيل بالضبط ولم يصرخن بالعويل ولا أصابهن الإغماء وهو سبب كراهة التشييع و لم يثقل جثمان لينا على أذرعهن الصلبة و قلوبهن المحبة الوفية، إنهن نساء خلقهن الله من روحه كما خلق الرجال، و سواهن كما سوى الرجال و كلفهن كما كلف الرجال فلم يُعتبر تشييعهن صديقتهن إلى قبرها خروجا عن الدين و الله في القرآن الكريم لم يفرق بينهن وبين الرجال في أصل الخلق و لا التكليف و لا المآل؟
إن حاجيات التونسيين النفسية اليوم قد تغيرت لأن أحوال الحياة قد تغيرت و صار الحداد يتطلب من التونسيات أن يرافقن أصدقاءهن إلى المستقر الأخير و هذه علاقة لا تخصّ عموم الناس في شيء و لا الجماعة و لا الفقهاء إنما هي علاقة بين الأفراد وربهم إن شاء تقبل منهم و واساهم عن أوجاعهم و ان شاء غفر و ان شاء رحمهم و ان شاء ابتلاهم، فلماذا يحشر بعض الناس أنوفهم في علاقة الناس بالههم و ينصبون أنفسهم حماة لطقوس اجتماعية يمكن أن تتغير بتغر الأزمنة لتعبر أكثر عن حميميّة تجربة كل فرد مع موت أحبابه و استعداده لتقبل موته الخاص.
ذلك هو الفرق بين الإسلام دينا روحيا يحقق خلاص النفوس والإسلام السياسي حين يمسي وسيلة للتحكم و السيطرة و التكفير و تكريسا لهيمنة ما.
رحم الله لينا ورزق أهلها و صديقاتها الصبر الجميل و ليتنا نتعلّم الاختلاف و نحترم حميميّة تجارب الآخرين مع أفراح الحياة و أتراحها.