بقلم أسعد جمعة
لقد تعدَّدت تأويلات المحلّلين السّياسيّين من القرار الذي اتّخذته مجموعة الدّول الأوروبيّة، بمباركة أمريكيّة و أطلسيّة دون شكّ، القاضي بإقصاء الدّولة التّونسيّة من العلاج الأممي لملفّ النّزاع المسلّح في الجارة الشَّقيقة ليبيا. فبين قائل إنّ لقاء الرّئيسيْن التّونسي و التّركيّ الذي اسْتُشفّ منه تطابقًا في وجهات نظر دويلة إزاء معالجة ملفّ الحرب الأهليّة اللّيبيّة، و الحال أنّ أحد طرفيْ النّزاع يتحرّك على الأرض بمدد من لدن السّلطان العثماني؛ و بين مخمّن لتدخّل شخصيّ من قبَل مواطن تونسيّ، كُلِّف بمهمّة دبلوماسيّة لفائدة المنظّمَة الأمميّة، فيخيَّل للمرْء أنّ صاحب القرار الألماني في هذا الملفّ هي دويلة من دويلات الموز لا الدّولة الفيديراليّة الألمانيّة، قوام الاتّحاد الأوروبيّ و ثالث القوى العظمى العالميّة. أمّا ردّنا عمّن سعى إلى تعْويم المسألة بإرجاع هذا الإقصاء إلى ضعف أداء الدّبلوماسيّة التّونسيّة أو ضبابيّة موقف دولتنا من الملفّ اللّيبيّ، فهو أنّ كلّ هذه المعْطيات ليست بجديدة، و مع ذلك فإنّ الدّولة المانيّة قد آزرت وجودنا في كلّ المحافل الدّوليّة، فما سرّ تغيّر موقفها من الدّولة التّونسيّة الآن و هنا تحديدًا؟
إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تقْتضي منّا العَوْدة إلى تصريح حماسيّ أدلى به الرّئيس سعيّد في إطار إنتشاءه بانْتخابه رئيسًا للجمهوريّة. حيْث لم يتوان مرابط حجْرة سقراط بالمركّب الجامعي من الإعْلان أنّ الدّولة التّونسيّة في حالة حرب مع “الكيان الصّهيونيّ”… هكذا دون مقدّمات و لا محاذير دستوريّة، و لا حتّى مجرّد شرح للأسْباب!
و ما فاته -نتيجة لغرّه السّياسيّ- أنّ فلَك نفوذ اللّوبيّات الصّهيونيّة، قد طال، بدعوى عقدة الذّنب النّازيّة، مفاصل قرار الدّولة الألمانيّة، بحيْث أنّ صاحب القرار الأمانيّ لا يجرأ على مجرّد الاتّصال بمَن تحوم شبهة “معاداة السّاميّة” حوله، فضلا عن الجلوس على مائدة حوار مع مَن أعلن أنّه في حالة حرب مع دولة إسرائيل الضّحيّة الأبديّة.
فلا غرْو، و الحالة على ما وصفْنا، أن تعمل المستشارة ماركل على إقصاء تونس من التّسوية اللّبيبيّة المُرْتَقَبَة.
و مع ذلك، فكلّ المؤشّرات تدلّ أنّ المستشارة الألمانيّة، في إطار حسن وفادتها للتّجربة الدّيمقراطيّة التّونسيّة النّاشئة قد وفّرت فرصة للرّئيس سعيّد، عساه أن يتدارك إعلان الحرب الذي سارع إليه في لحظة حماسيّة غير محْسوبة العواقب، بعد أن فشلت مساعي وزير خارجيّتها الذي تنقّل خصّيصًا للفت نظر مراهقنا المتهوّر إلى الفارق بيْن ما يمكن أن يتفوّه به من علْياء كرسيّ مقهى المنيهلة الذي كان يرتاده صباحًا مساءً و يوم الأحد، و ما يمكن أن يترتّب من عواقب خطيرة عن تصريحاته بصفته رئيس الدّولة التّونسيّة!
و بعد أن فضحت مكالمة المستشارة الألمانيّة ماركل أنّ قيس سعيّد يتحمّل شخصيًّا وزر عزل تونس عن المجتمع الدّولي في ملفّ الجارة الجنوبيّة، لم يتبقّى لنا سوى رجاء أو حدا في علاقة بزيارته المُرْتَقَبَة للمملكة المغربيّة: ألاّ يقايض العاهل المغربي سعْيه لتسوية الشّرخ الذي أحدثته مراهقة رئيسنا الدّبلوماسيّة مع كيان لا حدود جغرافيّة لنا معه، و لا تهديدات مباشرة مُسَلّطَة على مواطني هذه الدّولة بفضل كيانه، باشْتراط تغيير موقف الحياد الذي الْتَزَمَت به الدّولة التّونسيّة، منذ الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة و إلى حدّ رئاسة المرحوم الباجي قائد السّبسي لهذه لدولتنا، من ملفّ الصّحراء الغربيّة و النّزاع الحدوديّ بين المملكة المغربيّة و جبهَة البوليزاريو، فنخسر أيْضًا سَنَد الأخت الكبْرى، جارتنا الشّرقيّة، و دولة المليون و نصف المليون شهيدًا، و قد عاهدناها ملاذنا الأوحد فيما سبق لنا من أزمات و مآسي… ممّا حدا بكلّ رؤساء الدّولة التّونسيّة بإفراد هذا الجار العزيز بزيارتهم الأولى… و لكن مَرّة أخرى كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ تعامل مَن عَهد له دستورنا بناصية علاقات الدّوْلة الخارجيّة بصَدد التنكّر إلى أعرافنا الدّبلوماسيّة، ففضْلا عن عَدم تجشّمه عناء السّفر لتهنئة الرّئيس الجزائريّ بفوزه الانتخابيّ، فإنّه لم يكلّف نفْسه حضور موكب تشييع جثمان أبرز أركان الدّولة الجزائريّة و أحد أبنائها الأبْرار: المرحوم قايد صالح.
و في المحصّل، فإنّه لا يسعنا إلاّ أن نتمنّى، فالرّجاء في حالتنا هذه هو من ضروب المحال، أن يُهْمَس في أذن رئيسنا، من جملة ما يمكن أن يسرده على مسامعه جليسه “رضا لينين” من دُرَر جيوستراتيجيّة ثوريّة، أنّ تصريحات و مواقفه رئيس الجمهوريّة ملزمة للدّولة التّونسيّة، بحيْث أنّ تبعاتها منسحبة على مجمل المواطنين التّونسيّين، لا من حيث مصالحهم فحسب، بل على جهة كيانهم أصْلاً… فليتمكّن من ملفّات الأمن القومي قبل الزجّ بدولتنا في عنتريّات لا طائل من ورائها… في الوقت الرّاهن على الأقلّ.